مع تتالي خطوات الانفتاح والتغيير التي يقودها الرئيس السوري بشار الأسد، يطرح السؤال/ القضية الذي يفكر فيه الكثيرون بصمت، ويجري الحديث فيه عرضاً أو على استحياء على هامش بعض الندوات أو المقالات الصحافية، والسؤال هو: هل يعود الاسلاميون السوريون الى بلادهم؟ وربما كان من اسباب تجنب الحديث في هذا السؤال كونه يفرز مباشرة مجموعة من الأسئلة الحساسة التي لا بد من الاجابة عليها قبل الاجابة عليه. ومن هذه الأسئلة: بأي صفة يعودون؟ وهل يمثلون حقاً مجموعة واحدة متجانسة، ام انهم باتوا موزعين على مشارب ورؤى عدة ومختلفة؟ وما هو تقويمهم لتجربتهم السابقة على الصعيد الفكري ثم على الصعيد السياسي والاجتماعي؟ وما هي طبيعة المحددات الفكرية التي تحكم رؤيتهم للحاضر والمستقبل في ما يتعلق بدورهم وبعلاقتهم مع النظام ومع الشعب بكافة شرائحه، وبموقفهم تجاه مجموعة من المسائل السياسية والاجتماعية والثقافية؟ وما هي البرامج العملية والقنوات والوسائل والأساليب التي سيتم من خلالها التعبير عن تلك الرواية؟ ومن البدهي أن بقاء هذه الأسئلة وغيرها معلقة في فضاء الأذهان، من دون اجابات محددة واضحة كان وسيبقى مدعاة للمراوحة في هذه القضية، وسبباً لاحجام الأطراف الفاعلة عن القيام بأي مبادرات خلاقة يمكن أن يتم من خلالها رسم صورة أكثر وضوحاً لدور الاسلاميين الممكن في الحياة العامة في سورية في المراحل القادمة، الأمر الذي يقتضي فتح هذا الملف بصورة علنية ومباشرة، بعيداً من حساسيات التاريخ والايديولوجيا حتى يمكن للجميع التحرك ولو خطوة واحدة الى الأمام. الهم الوطني والنقطة الاولى التي يجب التأكيد عليها هي أن منطلق البحث في هذا الموضوع وامثاله كتابة وعرضاً وحواراً لا ينبغي أن تكون فيه شبهة تآمر أو دعوة للتآمر أو العمل العصاباتي السري الذي يهدف القفز الى الحكم أو لاسقاط النظام أو ما اشبه، كل ذلك من السيناريوات التي يمكن أن تحضر في بال اصحاب الفكر التقليدي الانعزالي السطحي الأحادي الرؤية، مهما قيل عن اخلاصهم أو سلامة نياتهم أو غير ذلك من الأعذار. ولذلك، فانه لا بد من التصريح بأن مناقشة أو عرض هذا الموضوع وامثاله بتلك الخلفيات في أي موقع من المواقع وعلى أي مستوى من المستويات يتناقض مع الهدف الأصلي من طرح الموضوع، فضلاً عن أنه لن يقود الى أي مساهمة ايجابية في صناعة المستقبل المشرق المطلوب لهذا الوطن، وانما سيؤدي الى الفوضى والاحباط الذي سيعود على الجميع. والهدف من هذه السطور انما يتمثل في محاولة المشاركة في تحمل الهم الوطني مع جميع فئات الشعب التي تتصدى لهذا الهم في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ سورية المعاصرة وذلك عبر طرح بعض المحددات المنهجية التي يجب التفكير فيها قبل طرح مسألة التغيير في سورية. بناء عليها، اضافة الى تصحيح بعض التصورات السطحية لتلك المسألة، كل هذا انطلاقاً من بعض المقدمات العلمية التي يطرحها علم السياسة المقارن في دراسته لظاهرة الانتقال والتحول في الأنظمة السياسية، وهي ظاهرة نالت نصيباً كبيراً من البحث والدراسة في عالم الأكاديميا الغربية على وجه التحديد خصوصاً في السنوات العشر الأخيرة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والتغيرات السياسية الكبرى التي حدثت في جميع انحاء العالم. آن الأوان لجميع شرائح الشعب التي تلتقي على ذلك الهم الوطني أن تكون ممارساتها وحركاتها العملية مبنية على الدراسة والبحث المنهجي الأكاديمي الذي يسبق أي مشاركة ويضبط اهدافها وأطرها ووسائلها واساليبها، وبالنسبة إلى الاسلاميين بالذات فان الواجب يحتم أولاً أن يتم طرح هذا الموضوع على طاولة البحث والنقاش الجدي المنهجي الذي يهدف الى استقراء الاحداث وفهمها فهماً موضوعياً، بعيداً من العواطف والشعارات والأماني المجردة، في هذه المرحلة التي لا يمكن وصفها بالمبكرة الا تجاوزاً، وذلك حتى لا تنطلق قراراتهم وخياراتهم من ردود الأفعال التي تأتي عادة بعد قيام الاحداث الأمر الذي كثيراً ما أودى ويودي بهم وبجهودهم، وبالعباد والبلاد معهم، في غياهب الفوضى والمطاحنات والحروب الأهلية. وعلى رغم ذلك فان هذا لا يعني أن يكون الهدف من هذا الكلام الدعوة لوضع خطة جهنمية جامعة مانعة شاملة للمستقبل، ربما تخطر في بال اصحاب الفكر المثالي الذي يؤمن بالمخططات الكبرى الشاملة، لأن هذا ليس من طبائع الأمور، ولا هو في امكان الاسلاميين أو غيرهم، كما أنه ليس هو المطلوب اصلاً، وانما المطلوب الآن هو القيام بحوارات جدية في محاور عدة، منها على سبيل المثال لا الحصر: فقه الواقع المحليالثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، فقه الواقع الخارجي الاقليمي والعالمي من حيث ملامحه وارتباطاته وتداخلاته المعقدة بالواقع السوري" القيام بمراجعات كبرى واساسية من الجذور وعلى جميع المستويات لأسس ومنطلقات العمل السياسي الاسلامي، وللتجربة العملية الماضية للحركة الاسلامية في سورية والبلاد الأخرى" التفكير في مواقع العمل الثقافي واساليبه الممكنة بشكل يضمن المشاركة الواعية في بناء مستقبل سورية. لا سيما وان ادراك المقتضيات العملية لمفهوم المواطنة اليوم يؤكد أن مثل تلك المشاركة غير ممكنة أو غير فاعلة الا من خلال التواجد في البلد الذي يحمل المثقف جنسيته المعينة، بخاصة في وطننا العربي الكبير على رغم كل الدعاوى والأمنيات الوحدوية والقومية المطروحة باستمرار. بؤرة الاحداث ثم ان انفتاح سورية المأمول والمتوقع واستيعابها المتجدد والشامل لأبنائها من جميع الشرائح والطوائف والانتماءات، فضلا عن كونه المدخل الحقيقي لازدهارها ورفعة شأنها فإنه يمكن أن يكون حلاً لكثير من مشكلات ابنائها المنتشرين في اصقاع الارض، وبخاصة منهم الافراد العاديين من الاسلاميين الذين تعطلت طاقاتهم الفكرية والعملية، وانحصر تفكيرهم في حل الازمات المعيشية الاجتماعية والاقتصادية التي تواجههم في بلاد المهجر العربي والعالمي اينما كان. كما أن ذلك الانفتاح ربما يكون للقلة من الواعين والعاملين المثقفين نقلة جاءت بمشيئة الاقدار من مواقع استفرغت إمكانات تفعيلها وإحيائها، أو وصلت الى سقفها الثقافي والفكري، بسبب الجمود والابائية والتقليد والكسل... الى مواقع خصبة مليئة بالحيوية والتفاعل والانفتاح الواعد المتوازن. فضلاً عن هذا، إن الانشغال بحاضر سورية ومستقبلها يمثلان ضرورة لا يمكن تجاوزها لكل مثقف وصاحب قضية مهما كان انتماؤه، ذلك أن سورية كانت وستبقى في بؤرة وقلب الاحداث الكبرى في المنطقه، وبالتالي في العالم، بحكم تاريخها وموقعها الحضاري الذي تفرزه دراسة الجغرافيا السياسية الجيوبوليتيكية للمنطقة، وحتى في الرؤية الدينية فإن كثيراً من النصوص والآثار تطرح حقيقة كون بلاد الشام الموقع الذي ستحدث فيه احداث ما يمكن أن نسميه بنهاية التاريخ، من نبوءة نزول عيسى عليه السلام عند المسجد الاموي الى ما يسمى بالملاحم الكبرى وغيرها من الاحداث... والكلام التالي يتضمن بضع إشارات في المحاور التي ذكرنا ضرورة البحث فيها، وهي إشارات تهدف الى فتح الملف وإثارة الموضوع وطرحه على طاولة الدراسة والحوار اكثر من كونها تهدف الى التفصيل والتحديد الذي يجب أن يكون هدف حوارات المرحلة القادمة. والبداية التي لا بد منها في مثل هذا الموضوع تتمثل في مسألة فقه الواقع، والغرض من فقه الواقع هو محاولة فهم ظواهره مجردة كما هي عبر الاحاطة والعمق والشمول والتحليل، قبل الوصول الى مرحلة الحكم عليها بمعنى اتخاذ موقف نفسي وفكري منها، الوسائل والبرامج، ولعل افتقاد هذه المنهجية وقبل مرحلة التعامل معها بمعنى تحديد منهجية فقه الواقع مجرداً قبل القفز للحكم المباشر عليه من خلال ظواهره السطحية،لعل افتقادها كان من اسباب كثير من الاخطاء وردود الأفعال التي وقع فيها الاسلاميون على وجه الخصوص في الفترات السابقة، إضافة الى اسباب موضوعية وخارجية اخرى ، الامر الذي يؤكد ضرورة الحرص على امتلاك فقه دقيق للواقع فلا اي مشروع للمشاركة في المستقبل وعلى اي مستوى من المستويات، ونعرض في ما يلي بعض مداخل فقه الواقع المحلي مع اعترافنا المسبق بقصور الكلام عن الحصر المنهجي الكامل الذي نؤكد مرة اخرى انه يجب أن يكون هدف حوارات ودراسات المرحلة القادمة. إن التغيير في سورية قادم صدق من صدق وكذب من كذب، اراد من اراد وقاوم من قاوم، وهذا الكلام لا يقوم على قراءة ساذجة سطحية لبعض المظاهر كما يظن البعض، ولا على تفاؤل متعجل أو وهم كاذب كما يعتقد البعض الآخر، وإنما يقوم على رؤية تحليلية لمجموعة من الظواهر والعوامل التي تطرح نفسها على ساحة الواقع، بعيداً من القراءة البسيطة السطحية الاحادية لتلك الظواهر، اول تلك العوامل هو الرغبة الذاتية الداخلية في التغيير، ويصدق هذا على مستوى القيادة إجمالا وعلى مستوى الشعب بشرائحه كافة ذلك أن ادنى درجة من المعرفة النفسية والاجتماعية تؤكد أن مجرد الاختلاف والتفاوت في العمر والخلفية الثقافية بين زعيم سياسي وآخر يحمل دلالات كثيرة على تفاوت يمكن أن يكون جذرياً في النظرة إلى المشهد المحلي والاقليمي والعالمي المعاصر ثقافياً وسياسياً واقتصادياً، ومن السذاجة بمكان إلغاء الكمون الكبير لاثر هذا العامل لمجرد الاصرار على رؤية تقليدية مسطحة سيأتي الحديث عنها لكيفية حدوث التغيير وسرعته وطبيعته. والمهم في الامر أن القيادة السورية الجديدة تدرك تماماً أن المرحلة القادمة تختلف في كل شيء تقريباً عن المرحلة الماضية، وان هذا يصدق على ظروف سورية الداخلية كما يصدق على الظروف الاقليمية والعالمية من حولها، ذلك أن مرحلة بناء الدولة والتمكين السياسي والعسكري لها في خضم صراع إقليمي شرس ووسط اجواء عالمية تتميز بمواصفات معينة معروفة سياسياً واقتصادياً وثقافياً وإعلامياً... تختلف تماماً عن اجواء ومواصفات المرحلة الراهنة، وعليه هناك إدراك عميق ان الاولويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والسياسات التي ينبغي أن تنبني عليها تحتاج الى إعادة نظر وتدقيق ودراسة على اعلى المستويات. اما على صعيد شرائح المجتمع، فإن هناك ايضاً رغبة عارمة، تجاوزت قدرة احد كائناً من كان على إنكارها، في إحداث نقلة شاملة على صعيد فاعليات الحياة الداخلية. ولا شك أن التقاء الرغبة في التغيير لدى كل من القيادة والشعب يشكل تياراً نفسياً وعملياً قوياً جداً يسري داخل سورية اليوم تصعب مقاومته من جهة، كما لا يمكن استيعابه إطلاقاً من خلال بعض الاشكال والمظاهر التجميلية المزيفة التي توقفت عند حدودها كثير من الانظمة الاخرى في المنطقة. واقعية القيادة وفضلاً عن هذا، فإن الواقعية البالغة التي يبدو انها تميز القيادة الراهنة في سورية، تفرض الاستجابة للتحديات والضغوط الاقتصادية والثقافية والسياسية المحلية والاقليمية والعالمية، عبر جملة من البرامج والسياسات العملية، التي تهدف الى استيعاب تلك التحديات بمرونة بالغة وبتدرج مدروس، يمكن من خلالهما تأمين استقرار النظام والمجتمع، وإطلاق عملية التنمية الشاملة، من دون أن يكون هناك بالضرورة تضارب بين هذين الهدفين ربما يوحي ان احدهما لا يمكن أن يتحقق إلا على حساب الآخر لا سيما وان هناك مستويات عدة للمشروعية السياسية والتاريخية المطلوبة بإلحاح... داخلياً واقليمياً ودولياً، يمكن أن تتحقق ويتم بناؤها وتشكيلها من خلال تلك البرامج والسياسات. وإذا كان الحديث السابق في دواعي وعوامل التغيير لدى البعض مجرد حديث نظري، فإن مؤشرات التغيير العملية على ارض الواقع جاءت تترى في خلال الاشهر القليلة الماضية وبشكل بات يصعب على الحصر والمتابعة، بدءاً من مدلولات خطاب القسم ومداولات المؤتمر القطري الاخير لحزب البعث الحاكم، مروراً بمساحات النقد والمراجعة الواسعة التي فتحت للمثقفين والصحافيين والسياسيين المستقلين، ليس فقط على صعيد التعبير في الصحافة والمنابر الاعلامية المحلية والعربية، وإنما ايضاً على صعيد الحركة العلمية عبر الصالونات الثقافية والندوات وتأسيس الجمعيات المدنية ونشاطات بعض الاحزاب كالحزب الشيوعي والحزب السوري القومي الاجتماعي وإصدار البيانات واشهرها بيان ال 99 مثقفاً سورياً، ومروراً ايضاً بتغيير معظم قيادات المؤسسات الاعلامية ومعظم قيادات فروع الحزب، وإطلاق اعداد كبيرة من السجناء السياسيين والموافقة على إنشاء فروع ومكاتب وصحف خاصة لاحزاب الجبهة الوطنية، وانتهاء بقرار إنشاء المصارف الخاصة وسوق الاوراق المالية البورصة وتحرير سعر صرف العملة، بل والموافقة على قيام المنتدى السوري لحقوق الانسان. هل يمكن أن يقال بعد هذا كله إن كل شيء في سورية اليوم هو كما كان عليه في الماضي كما يتردد على ألسنة بعض البسطاء هنا وهناك؟ إن من الممكن طبعاً للبعض أن يصموا آذانهم ويغمضوا أعينهم بكل سذاجة على المستوى الشخصي عن الدلالات الهائلة لكل هذه التغييرات التي حصلت في مدة لا تتجاوز الشهور الستة، ولكن هذا لن يؤثر في شيء على مجريات الامور على ارض الواقع، اللهم إلا أن يزيد امثال هؤلاء تخلفاً عن الركب وقوقعة وإصراراً على الحياة خارج الزمان والمكان. والحقيقة أن ما يحتاج إلى تحرير وإعادة نظر لدى السوريين بشكل عام والاسلاميين منهم على وجه الخصوص هو تلك النظرة المبسطة العفوية للتغيير من حيث طبيعته ومراحله وسرعته. فالبعض يعتقد أن كلمة تغيير تعني إحداث انقلاب شامل خصوصاً في مجمل القوانين والتشريعات السياسية والاقتصادية بين عشية وضحاها، بمعنى الغاء تلك القوانين والاستعاضة عنها بقوانين جديدة يغلب أن تكون على النقيض من تلك القديمة الى ابعد الدرجات، ولئن كان بالامكان تفهم اسباب التعطش العاطفي البالغ الى مثل هذا النوع من التغيير، إلا أن هذه الرؤية تتجاوز وتغفل مجموعة مقدمات اساسية لا بد من اخذها بالاعتبار،إذا نظرنا الى المسألة من وجهة نظر سننية منهجية تستصحب الواقعية والاحاطة بكل خلفيات وعوامل المشهد السياسي والاقتصادي في البلد. وعلى اقل تقدير، تغفل تلك الرؤية المبسطة للتغيير أن القوانين والتشريعات السابقة كانت محاولة للتعبير عن تصور فلسفي معين للحياة العامة ولنظام الحكم، يستحيل الانقلاب عليه بهذه الطريقة بغض النظر عن درجة الاتفاق أو الاختلاف معه، وانها اي تلك القوانين صاغت على مدى العقود الماضية واقعاً اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً معيناً يحتاج، إذا كان المراد إعادة تفكيكه وتركيبه، إلى أقدار مقدرة من الحساسية والمرونة والتدرج، تجنباً للفوضى الشاملة التي يمكن أن تنتج عن الحماسة والاستعجال، هذا فضلاً عن أن استمرارية هذا الواقع يمثل هدفاً لمجموعة معقدة ومتداخلة من الشرائح الاجتماعية ومراكز القوى السياسية والاقتصادية التي ما زالت تمسك بشكل مباشر أو غير مباشر بكثير من مفاصل القرار، الامر الذي يتطلب ممارسة سياسية شاقة ودقيقة متعددة الاهداف، بدءاً بإعادة ربط مصالح بعض تلك الشرائح والمراكز بملامح الصورة الجديدة، مروراً بمحاولة محاصرة وعزل بقع التمرد فيها بأقل قدر ممكن من الخسائر، وانتهاء بإيجاد وتشكيل الاطر والهيئات والمؤسسات البديلة. واخيراً تغفل تلك الرؤية المبسطة للتغيير أن الخطوة التالية المباشرة لمثل ذلك الانقلاب الخيالي السريع والشامل على الماضي ستكون نهاية النظام السياسي بكل مؤسساته وشرائحه التقليدية والجديدة، وهو ما لا يمكن أن يقدم عليه اي نظام سياسي معاصر، وبالتاكيد لا يستحسن أن تقدم عليه قيادة سياسية تحمل كموناً كبيراً في رؤاها وتصوراتها المستقبلية، ولا يبدو البديل عنها بعد استقراء البدائل المطروحة غير الفوضى وربما الفوضى الشاملة. من هنا، تصبح عملية إعادة التفكير في معنى التغيير ومداه وطبيعته وآلياته اولوية من اولويات جميع شرائح المجتمع السوري، ويصدق هذا على الاسلاميين اكثر من غيرهم للاسف، بسبب ضغط التفكير الشعاراتي الذي يختزل مجمل الظواهر السياسية المعقدة في مجموعة من المبادئ والشعارات العامة،ثم يضفي عليها وعلى التفكير والممارسة المنبثقين منها قدسية مسحوبة من النصوص الدينية ذات العلاقة، هذا فضلاً عن الفقر الشديد في التفكير والتنظير السياسي العلمي والاكاديمي، الذي عادة ما يستعاض عنه إما بتحليلات ورؤى القيادات التاريخية، أو بالخبرات الشخصية المتحصلة من المتابعة العامة للشأن السياسي في الصحف والمجلات وباقي وسائل الاعلام، وفي ما عدا بعض التجارب الخاصة المعروفة في إيران والسودان وتركيا، يندر أن توجد في الجماعات والحركات الاسلامية جهات متخصصة تتصدى لمسؤولية التعامل مع الظاهرة السياسية فهماً واستيعاباً وتحليلاً ثم صناعة للجانب السياسي من القرار. وربما تكون الخطوة الاولى في عملية إعادة التفكير تلك إدراك أن التغيير هو في جوهره نتاج لحراك اجتماعي بالغ الحيوية ولمدافعة سننية طويلة المدى ومتعددة المستويات بين مجموعة عوامل هي بدورها متغيرة وتنبض بالحيوية والحياة. فهناك السلطة السياسية، ومن خلفها رؤية فلسفية للحياة العامة تنبثق منها وظائف محددة في مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهذه الوظائف تحتاج الى مؤسسات تقوم برسم تفاصيلها وتنفيذ مقتضياتها، وهناك على الجانب الاخر المجتمع المدني بشرائحه المتنوعة التي يحمل كل منها ايضاً رؤية فلسفية معينة للحياة العامة، وللوظائف التي تنبثق منها، وللمؤسسات التي يجب أن تقوم بها. والنقطة المفصلية التي يجب تأكيد الوعي بها في هذه المرحلة من تاريخ سورية تتمثل في إدراك حجم ومعاني القرار العملي بفتح الباب لذلك الحراك الاجتماعي والسياسي ولتلك المدافعة السننية، وهو قرار في غاية الخطورة والحساسية، صحيح انه جاء استجابة لإدراك متقدم لجملة من المتغيرات الجذرية التي غيرت صورة المشهد العالمي والاقليمي والمحلي المعاصر على جميع المستويات، إلا أن استجابة شرائح المجتمع السوري كافة لمثل هذا القرار الحساس في المقابل يجب أن تكون ايضاً على مستوى متقدم جداً من الشعور بالمسؤولية على صعيد التفكير والتخطيط والممارسة العملية، ولذلك فإن البدايات العملية التي نراها لإنعاش المجتمع المدني ومؤسساته ينبغي أن تستمر ضمن إطار من الوعي الكامل بخصوصيات وحساسيات وتوازنات المرحلة الراهنة التي يجري فيها البحث عن ملامح النظام السياسي الجديد القادم، الذي يمثل طموحات وتطلعات القيادة السياسية الجديدة. وربما كان من الممكن إدراك حجم المسؤولية الملقاة بالتحديد على عاتق رموز وشخصيات المجتمع المدني ومؤسساته إذا علمنا أن طبيعة ونوعية التدافع في هذه المرحلة بين هذه المؤسسات وتلك المنبثقة من السلطة السياسية ستؤثر الى درجة كبيرة في صورة ذلك النظام السياسي الجديد. وإذا نظرنا الى الاسلاميين بحكم كونهم شريحة من شرائح ذلك المجتمع المدني فإن مسؤوليتهم تحمل نوعاً من الخصوصية يجدر فتح باب الحوار والنقاش فيه بصراحة ووضوح. توافق مع الآخرين فمن جهة، ينبغي الخروج وبقوة، على الصعيدين النفسي والعملي، من النظرة الجزئية الانعزالية المصحوبة احياناً بالاستعلاء المستتر، والتي تمارس باسم التميز الاسلامي عن باقي شرائح المجتمع ومؤسساته. ففضلاً عن أن الاصرار على هذا الفهم للتميز لا يعني شيئاً وهم اي الاسلاميون غائبون اصلاً عن الساحة نظرياً وعملياً، فإن كل الشرائح الاخرى ، تتطلع الى صورة للواقع يتفق العاقلون من الاسلاميين على كثير من ملامحها العامة من الحريات الى المشاركة، الى الشفافية، الى سيادة القانون الى محاربة الفساد، الى تصحيح عملية التنمية الشاملة، الامر الذي يجب أن يلغي تماماً تلك النظرة الانعزالية ويدعو بدلاً منها الى المشاركة الندية الحقيقية التي لا تلغي الخصوصية، وإنما تؤكد على البحث عن الافضل من خلال الحوار والتعاون والتنافس المشروع. ومن جهة ثانية، يجب الانصراف عن النظرة التقليدية الطوباوية للممارسة السياسية وتحديد اطر منهجية حاكمة للعلاقة مع السلطة والشعب والقوى الاخرى في المجتمع، وربما قبل هذا للمفاهيم الحاكمة للعلاقات داخل الجماعات والحركات الاسلامية نفسها من السرية الى البيعة الى الطاعة الى الولاء والبراء الى جماعة المسلمين الى التميز الى غير ذلك من المفاهيم، من دون أن يعني هذا بالضرورة الدعوة للوصولية أو الانتهازية أو النفعية البراغماتية البالغة، وذلك خروجاً من فكر الثنائيات المتقابلة واستصحاب لفكر الوسطية الذي يتعامل مع الواقع ويعمل على رفعه تدريجاً نحو المثال. ثم إن من الضرورة بمكان العمل على تقويم المراحل السابقة وعلى دراسة نماذج العمل السياسي الاسلامي المختلفة في الماضي والحاضر. وهذا يتطلب اول ما يتطلب التأكيد على امتلاك شروط العلمية والتخصص، حتى لا تتكرر التجارب السابقة ويبنى التفكير السياسي وتبنى الممارسات السياسية على الاقدمية والثقافة العامة والشطارة والفهلوة عبر القيادات الفردية الشمولية التي تتصدى للقرار السياسي والفقهي والاقتصادي، والحركي. بحثاً عن التفاعل واخيراً، ربما كان ضرورياً التأكيد على مجموعة من المقدمات والشروط الاساسية التي يجب أن تسبق تفكير الاسلاميين بأي شكل من اشكال المشاركة العامة، أولها وأهمها يتمثل في أن تكون المشاركة بعقلية وخلفية التيار الثقافي الفكري لا بعقلية وخلفية الجماعة والحزب، خروجاً من اجواء الازمات السابقة وبحثاً عن تفاعل حقيقي مع شرائح المجتمع عبر الطرح الثقافي الفكري الحضاري العام الذي لاينحصر في الجانب السياسي من الحياة العامة، وبناء على هذا لا ينبغي فقط تبني القضايا والهموم العامة، بل يجب إعطاء ما يكون منها داخل الدائرة القطرية الاولوية في المرحلة الراهنة، انسجاماً مع التفكير المنهجي الذي يؤكد على تكامل دوائر الانتماء القطرية والقومية والاسلامية والانسانية، بدلاً من تضاربها، ولا بد اولاً واخيراً من حد ادنى من الدراسة المنهجية لاي مشاركة من حيث تحديد الهدف والوسيلة ونوعية الكوادر العاملة فيها، بعيداً عن العشوائية وردود الافعال، وانطلاقاً من رؤية واضحة محددة للهدف من المشاركة في الحياة العامة. لقد مر على العرب زمان رتيب كان يقال لهم فيه بتكرار يدعو الى الغثيان: "وباعتبار أن هذه المرحلة حساسة في تاريخ امتنا فان علينا كذا وكذا..." وكان مؤدى معظم ما يأتي بعد هذه الجملة من كلام يصب في خانة تشريع وتبرير غياب المشاركة والشفافية والحرية والديموقراطية، الا أن الدهر قلاب، والزمان يأبى الا أن يتغير ويتبدل من حال الى حال، ولقد جاءت المرحلة التي يمكن أن يقال انها تمثل حقاً وصدقاً مرحلة حساسة على الأقل من تاريخ سورية، هذا البلد العريق الذي يستحق بقيادته وشعبه وتاريخه ومقدراته موقعاً حضارياً يليق به وهو اهل له بكل تأكيد، خصوصاً وأن شيئاً من الاطلاع على أدبيات انتقال وتحول الانظمة في علم السياسة المقارن يؤكد حجم الفرصة السانحة الآن لتفاعل شعبي رسمي واسع الأبعاد، اقرب لما حدث في بعض التجارب المتميزة مثل بولندا وهنغاريا، منه الى تجارب الانتقال الأخرى الفاشلة بحكم عراقة التجربة التاريخية وتوافر المقدرات البشرية والمادية، ووجود ارادة التغيير عند كل من القيادة والقاعدة، ويبقى الشرط الأول والأخير متمثلاً في الارتقاء الى مستوى مسؤولية اللحظة الراهنة، وامتلاك القدرة على التعامل بحكمة وفاعلية مع عقبات المرحلة الممكنة، ومن أهمها القوى المضادة للتغيير وكل ما يمكن أن ينتج عن الحماسة المبالغ فيها لدى قوى المجتمع المدني من ناحية، وعن قلة الحماسة والزخم المطلوبين لدى القيادة من ناحية ثانية. وعودة الى الاسلاميين وبعيداً من اي وصاية متوهمة لا يمكن أن تمارسها مثلاً في صحيفة فان عليهم أن يدركوا أن مسؤوليتهم الكبرى لا تنبع من وزن اشخاصهم أو تجمعاتهم، بقدر ما تنبثق من خيارهم الحضاري الذي يعلنونه وهويتهم الثقافية التي يدعونها. نقول هذا لان للاسلام دوراً اساسياً لا بد أن يلعبه في حاضر المنطقة ومستقبلها، ونقول هذا لان وجود الظاهرة الاسلامية، بل ولان استمرارها ونموها، وهي التي يظنها البعض طارئة، انما يبدو استجابة طبيعية لتطور الأمور حضارياً في المنطقة وفي العالم من حولنا، وللتفاعل الحيوي الهائل والمستمر الذي اراده الخالق بين الواقع والنظرية، وبين الانسان واخيه الانسان، وبين الانسان والكون، فالمسألة خارج نطاق ارادات الأفراد والمجموعات اياً كانوا وكانت، مع أو ضد ذلك الوجود. ونقول هذا لان الاسلام مكون تاريخي اصيل واساسي لانسان المنطقة على مر التاريخ، يعرف هذا من يمتلك القدرة على الرؤية السننية الاجتماعية طويلة المدى، ويخدع نفسه ويخدع بلاده ويوقعها في المهالك من كل نوع، كل انسان ينطلق من نظرة قصيرة المدى وفي غاية الاختزال، فيظن أن بعض السياسات والمعالجات الأمنية هنا وهناك، انهت أو يمكن أن تنهي وجود هذه الظاهرة. ولكن كل هذا لا يعني أن مجرد رفع الشعار واعلان الهوية يكفي بذاته أو يمكن أن يكون بديلاً من ممارسات في غاية الوعي والعقلانية والانفتاح تطلب أول ما تطلب ممن يصرون على أن يكون ذلك الشعار وتكون تلك الهوية ارضية برامجهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، الأمر الذي لا يزال بكل صراحة ووضوح وبشهادة التاريخ والواقع الحاسمتين، بعيداً من واقع التجمعات الاسلامية للسوريين. وفي المقابل فان هناك تحدياً آخر يواجه من يتعامل مع هذه الظاهرة من خارجها سواء كان على مستوى السلطة السياسية أو على مستوى تجمعات المجتمع المدني الأخرى، ويتمثل هذا التحدي في نوعية ومنهجية التعامل مع هذه الظاهرة، بدءاً من فهمها على الوجه العلمي الرصين المطلوب في ضوء اشارات ومعاني الفقرات القليلة السابقة مروراً بقراءتها بشكل شمولي على مستوى الأدبيات وعلى مستوى الواقع والحركة، وامتلاك القدرة على التمييز الواعي الدقيق بين مختلف مكوناتها، وانتهاء بالتعامل مع تلك المكونات بطريقة حكيمة، تضع الأمور في نصابها، بعيداً من التعميم والاختزال والتسطيح والانتقائية، وبما فيه خير وتقدم هذه الأمة بجميع شرائحها وفئاتها، وعلى مختلف المستويات... * باحث سوري في العلوم السياسية.