من المهم جداً أن تكون هناك رؤية واعية للدور المتحفي قبل وأثناء إنشاء المؤسسة المتحفية. فالمتحف ليس مجرد مكان بارد صامت يحتوي على أدوات ومقتنيات الأموات ضمن أُطر باردة يمر أمامها الأحياء وكأنهم أموات. ولا يعلق بعقولهم من تلك الزيارة إلا ما يعلق في أذهاننا من خبر اصطدام قطارين في بلد بعيد، نرجع بعد دقائق إلى استقلابات حياتنا وكأن الخبر لم يكن. فالمتحف هو وعاء الذاكرة الجماعية للشعوب. يحمل في داخله موروثها القيمي والأخلاقي والعقدي والعلمي، وفنونها وطرق معاشاها وأزياءها وملامح حياتها الطقوسية والاحتفالية وأساسيات المجتمع ومفاهيمه. وعندما يفقد المتحف الخدمة الإرشادية والعلمية المباشرة أمام رواد المتحف، فإننا نحجِّم ذلك المتحف في إطار ضيق ينحصر في حدود أرقام إحصائية ودعاية إعلامية لا طائل منها. وفي ضوء الواقع السيئ جداً الذي نعيشه، وتلك الثقافة الانسياقية أمام هجمات هائلة تستهدف تفريغ الأمة من ثقافتها وإشاعة شعور معلب في أذهان أجيال كاملة يفيد تضليلهم وإفهامهم أن تاريخهم وموروثهم هو مجرد أحداث دانية وحشية غير حضارية وأنهم ينتمون إلى أمة هامشية تماماً لا فضل لها ولا تأثير ولا دور في الكم التراكمي من المعارف والعلوم الإنسانية. وبالتالي فإن البديل المفروض أمامهم هو الخيار الوحيد الذي ثبتت فعاليته وجدواه وبريقه أمام بهاتة وضبابية التاريخ العربي والإسلامي الذي ينسب إليه كل نقيض وعيب وخلل. وتعلق عليه كل أسباب التخلف والجمود والقصور. أمام كل هذا يبرز دور المتحف المهيأ بالخدمات العلمية والاحترافية العالية ليعيد لأجيال الأمة ثقتها بنفسها وبتاريخها وبأمتها وبدورها الريادي في الحضارة الإنسانية من خلال إعادة الربط العضوي وتطبيع العلاقات مع ما تحمله تقنيات المتحف من معلومات وفيرة ومبهرة إلى حد الصدمة الإيجابية في مجالات الطب والفلك والكيمياء والصيدلة والتقنية المعدنية والعمارة والري والسدود. وفنون من الكتابة وأنواع الورق والأحبار. ومظاهر الانفتاح الثقافي على الحضارات الأخرى منذ عهود مبكرة. وعدم التعامل بحساسية مع ثقافات وعلوم باقي الأمم والشعوب، والمساحات الهائلة من اللقاء والتعايش مع الافكار والأديان الأخرى. ومن ناحية أخرى نستطيع قراءة الثراء الفني في مختلف الفنون من رسم وتصوير وتجريد وموسيقا وغناء وأزياء، وقواعد راقية جداً من آداب الحياة العامة في قواعد الطعام والشراب والمجالسة والمعاشرة والجوار والزيارات والتهنئة.. الخ ولعل الأهم من هذا كله مساعدة رواد المتحف على قراءة تاريخية من خلال المواد المتحفية الأكثر مصداقية من آراء المؤرخين الذين يبقون عرضة لمؤثرات شتى (عصبية دينية - عصبية مذهبية- انتماء عرقي أو قبلي - مراءاة ونفاق مع ولي الأمر- غياب جزئي للمعلومة- نظرة غير واعية وتفسير غير علمي للأحداث- غياب بعض المعلومات عن المؤرخ.. الخ). في حين تقدم المادة المتحفية دليلاً قطعياً فائق المصداقية وتشكل المعلومات أو المأثورات على تلك المادة مفكرة يومية لا تقبل النقض أو الاحتماليات بها أو النظرة المتأثرة بعوامل أخرى. ومن هنا فإن الدليل المتحفي الخبير والقادر على نقل المعلومة إلى رواد المتحف، ومساعدتهم على قراءة المادة المتحفية وتلمس وتذوق ملامح الجمال فيها، دور فائق الأهمية خصوصاً أمام الأطفال والأجيال الناشئة، لمساعدتها على معرفة مكانها ودورها وهويتها، وبالتالي زيادة مقدرتها على الصمود والثبات أمام تيارات التغريب والإذابة.