يقال عن التجارة في اللغة إنها تقليب المال بالبيع والشراء لغرض الربح، وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم بهذا المعنى في مثل قوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة عن تراض). وأما التاجر أو المتاجر فهو الشخص الذي يمارس العمل التجاري، بشرط أن يكون لديه أهلية الاشتغال بالتجارة. وليست التجارة انتهاباً أو استغلالاً لحاجة المجتمع بالمكر والخداع والأيمان الكاذبة وأساليب الترويج المغرية والمضللة كما أنها ليست وظيفة مالية هدفها الوحيد إنما الثروة المالية فقط، بل إن التجارة والعمل التجاري في الأصل هي خدمة اجتماعية وتعاونية للمجتمع في المقام الأول ويجب أن تكون مشمولة دائماً بالصدق والأمانة وعدم الغش والنصح وغيرها من الآداب الإسلامية التي ينبغي الالتزام بها حال ممارسة العمل التجاري، لكي تؤتي ثمارها المرجوة منها كتيسير حياة المسلمين ودفع المشقة عنهم. وإذا صحت نية التاجر وقصد بتجارته منفعة المسلمين بأداء هذه الفريضة الكفائية مع سعيه لطلب الرزق الحلال الذي يحفظ به نفسه ويصون به أسرته ويسهم به في بناء مجتمعه، كانت التجارة في حقه ليست مجرد بيع وشراء، بل تعتبر إحدى صور التعامل مع الله سبحانه وتعالى فهو يشتري ثواب الله بالأعمال الصالحة لأن الأعمال بالنيات، وكل يجازى بقدر نيته، ومن ثمار ذلك أن يبرز الجانب الأخلاقي في المعاملات الإسلامية وتكون في المقام الأول كالالتزام بالصدق والأمانة لقوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم). وتجنب التعامل بالربا لقوله: (وحرم الربا). وتجنب أكل الأموال بالباطل لقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل), ونحوها. ولما كانت التجارة من أهم مقومات الاقتصاد الإسلامي، فقد عنيت الشريعة الإسلامية بوضع القواعد الضابطة والشروط التي من شأنها أن تكفل استقامة ذلك الركن المهم من أركان استقرار المجتمع. ولو رجعنا للأصل في التجارة والعمل التجاري فسنجده الإباحة من حيث العموم، لقوله تعالى: (وأحل الله البيع)، لكن لا ينبغي أن تغرق أهلها ومن يتنافسون فيها بالأرقام والحسابات والأرباح، وينسى الواحد الواجبات المطلوبة منه والمنهيات التي حذر عنها، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل والقدوة الحسنة، فقد أقام صلى الله عليه وسلم حال هجرته للمدينة سوقاً وأسس نظاماً يجب على المتبايعين التقيد به، حيث أقام سوقاً مستقلة لا سلطان لليهود آنذاك عليه (النظرية اليهودية في التجارة) كما كانت سوق بني قينقاع، بل رتب النبي عليه الصلاة والسلام أوضاع السوق وظل يرعاه بتوجيهاته ونصائحه، فلا غبن ولا تطفيف في الميزان ولا احتكار ولا تناجش، وهذه هي صفاته صلى الله عليه وسلم حتى قبل أن يبعث لأنها صفات جبلت عليها النفوس النزيهة والهمم العالية، فقد كان عليه الصلاة والسلام يسمى قبل البعثة في مكة بالصادق الأمين حتى إن خديجة بنت خويلد رضي الله عنها لم تجد أحداً مثل محمد بن عبدالله لتستأمنه على تجارتها، وكان نعم الاختيار حيث قام بهذه المهمة خير قيام وعلى أفضل وجه، وقد ربى عليه الصلاة والسلام صحابته من بعده على هذا الصفات والخصال العظيمة.. من ذلك أن الناس أصابهم قحط في زمن أبي بكر رضي الله عنه فقدمت لعثمان بن عفان ألف راحلة براً وطعاماً فغدا التجار عليه فقالوا: بلغنا أنه قدم لك ألف راحلة برا وطعاما، بعنا حتى توسع به على فقراء المدينة، فقال لهم عثمان: كم تربحوني على شرائي؟ قالوا: العشرة اثني عشر، قال: زادوني، قالوا: من زادك ونحن تجار المدينة؟ قال: زادوني بكل درهم عشرة! هل عندكم زيادة؟ قالوا: لا، قال: فأشهدكم معشر التجار أنها صدقة على فقراء المدينة.. من هنا يتضح أنه يجب على المسلم أن يقدم المصلحة العامة في تجارته على المصلحة الخاصة، وحينئذ فقصده نفع نفسه فرع عن قصده النفع العام، وذلك من شأنه أن يرتب الكثير من النتائج إذا ما تعارضت مصلحته الشخصية مع المصلحة العامة، ليتضح مدى ما تحلى به التاجر المسلم على مر العصور وخاصة في صدر الإسلام من القيم الإسلامية فكان ذلك من أسباب ربحه، وكان يعمل في نفس الوقت داعياً إلى الله عن طريق الكلمة الطيبة والصدق في المعاملة والسماحة في البيع والشراء، وكان ذلك انطلاقاً من عقيدته الراسخة وهي: * الإيمان بالله: فهذا الإيمان يدفعه بأن يستشعر بأن المال الذي يعمل فيه ملك لله سبحانه وتعالى وأنه سبحانه هو الذي رزقه وهو مستخلف عليه، فيجب أن يكون الحصول عليه من الحلال، لأن الله طيب لا يقبل إلا الطيب مما سيدفعه بأن يبتعد عن الحرام قال تعالى: (فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً). * إقامة الصلاة: لضمان دوام الصلة بالله في أوقاتها وإتمام أركانها فبها يشعر بمراقبة الله له، قال تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر). * الإيمان بالملائكة: وأنهم عليه حافظين لما ينطق ويتلفظ، كما في قوله تعالى: (وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) فيكون التاجر المسلم على ثقة من ذلك الأمر فلا يغش ولا يطفف ولا يبخس لإيمانه بالملائكة وعملهم الإحصائي. * الايمان بالقدر خيره وشره: فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه وأن كل شيء مقدر له فهو ملاقيه فلا يتعجل الرزق ولا يجعل همه الأكبر البحث عنه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى عليك). وكذلك باقي شروط الإسلام والإيمان فكل منها مرتبط برباط وثيق بعقيدة التاجر المسلم، وليعلم أن الغاية من حياته هي عبادة الله والغرض من وجوده هو تنفيذ أمر الله واجتناب نواهيه، وأن في تحقيق ذلك سعادته في الدنيا والآخرة، وشتان بين هذه المفاهيم الإسلامية وبين القوانين التي تحكم السوق اليوم والتي تقوم على تقديس المصلحة الخاصة ولو كان ذلك على حساب المصلحة العامة تحت شعار الحرية الاقتصادية أو السوق الحر، والذي يفتح الطريق واسعاً أمام استغلال القوي للضعيف، والاحتكار، وانتشار مظاهر أكل أموال الناس بالباطل,,, والله المستعان. [email protected]