الحمد لله الذي جعل لعباده الصالحين مواسم يستكثرون فيها من العمل الصالح، وأمد في آجالهم فهم بين غادٍ للخير ورائح، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن أعمار أمة محمد صلى الله عليه وسلم أقصر أعماراً من الأمم السابقة، قال - صلى الله عليه وسلم-: «أعمار أمتي مابين الستين إلى السبعين»«رواه الترمذي وابن ماجه»، ولكن الله بمنه وكرمه عوضها بأن جعل لها كثيراً من الأعمال الصالحة التي تبارك في العمر فكان من عملها رزق عمراً طويلاً، ومن ذلك ليلة القدر التي قال الله فيها:{ لّيًلّةٍ القّدًرٌ خّيًرِ مٌَنً أّلًفٌ شّهًرُ } [القدر: 3 ] . قال الرازي رحمه الله: «اعلم أن من أحياها فكأنما عبد الله نيفاً وثماني سنين ومن أحياها كل سنة فكأنما رزق أعماراً كثيرة». ومن الأوقات المباركة أيضاً عشر ذي الحجة التي ورد في فضلها آيات وأحاديث، منها قول الله تعالى{وّالًفّجًرٌ ولّيّالُ عّشًرُ } [الفجر: 1 - 2] قال ابن كثير رحمه الله :«المراد بها عشر ذي الحجة». وقال عز وجل: {ويّذًكٍرٍوا اسًمّ اللَّهٌ فٌي أّيَّامُ مَّعًلٍومّاتُ } [الحج: 28] . قال ابن عباس: أيام العشر. وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام - يعني أيام العشر - قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء». وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» «رواه الدارمي بإسناد حسن». وروي عنه أنه قال: «لاتطفئوا سرجكم ليالي العشر» كناية عن القراءة والقيام. قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:«والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة: لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يأتي ذلك في غيره». وقال ابن رجب رحمه الله في اللطائف:«لما كان الله سبحانه قد وضع في نفوس عباده المؤمنين حنياً إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادراً على مشاهدته كل عام، فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره وجعل موسم العشر مشتركاً بين السائرين والقاعدين». وسُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن عشر ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان، أيهما أفضل؟ فأجاب أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من عشر ذي الحجة». فبادر أخي المسلم إلى اغتنام الساعات والمحافظة على الأوقات فإنه ليس لما بقي عمرك ثمن، وتب إلى الله من تضييع الأوقات، واعلم أن الحرص على العمل الصالح في هذه الأيام المباركة هو من المسارعة إلى الخير ودليل على التقوى.. {ذّلٌكّ ومّن يٍعّظٌَمً شّعّائٌرّ اللَّهٌ فّإنَّهّا مٌن تّقًوّى القٍلٍوبٌ} [الحج: 32] . ما يستحب فعله في هذه الأيام حري بالمسلم أن يستقبل مواسم الخير عامة بالتوبة الصادقة، ذلك أنه ما حرم أحد خيراً في الدنيا أو الآخرة، إلا بسبب ذنوبه، قال الله تعالى:{ومّا أّصّابّكٍم مٌَن مٍَصٌيبّةُ فّبٌمّا كّسّبّتً أّيًدٌيكٍمً ويّعًفٍو عّن كّثٌيرُ} [الشورى: 30] فالذنوب لها آثار خطرة على القلوب، كما أن السموم تضر الأبدان ولابد من إخرجها من الجسم كذلك الذنوب تؤثر على القلوب تأثيراً بالغاً، منها أن المعاصي تزرع أمثالها وتجر أخواتها حتى يصعب على العبد مفارقتها والخروج منها، فسارع أخي المسلم إلى التوبة النصوح واستقبل هذه الأيام بالبعد عن المعاصي والذنوب وأكثر من الاستغفار، ودوام على ذكر الله عز وجل، فلا يعلم أحدنا متى يفاجئه الموت ويرحل من هذه الدنيا، ومن الأعمال التي لا تغيب عن العاملين المسارعين للجنات: 1- الإكثار من الأعمال الصالحة عموماً لقوله: «ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر..» ومن الأعمال الصالحة التي غفل عنها بعض الناس: قراءة القرآن، وكثرة الصدقة، والإنفاق على المساكين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها. 2- الصلاة: يستحب التبكير إلى الفرائض والمسارعة إلى الصف الأول والإكثار من النوافل، فإنها من أفضل القربات. وعن ثوبان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عيك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة» «رواه مسلم» وهذا عام في كل وقت. 3- الصيام: لدخوله في الأعمال الصالحة، فعن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - قالت: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر» «رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي». وعن حفصة رضي الله عنها قالت: «أربع لم يكن يدعهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، والركعتان قبل الغداة» «رواه أحمد وأبو داود». وقال عليه الصلاةوالسلام «ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا» «متفق عليه». قال الإمام النووي عن صوم أيام العشر: «إنه مستحب استحباباً شديداً»، وقد خص النبي - صلى الله عليه وسلم - صيام يوم عرفة من بين أيام عشر ذي الحجة بمزيد عناية وبين فضل صيامه فقال: «صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يكفرالسنة التي قبله والتي بعده» «رواه مسلم». 4- أداء الحج والعمرة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» «رواه مسلم». ولقوله - صلى الله عليه وسلم - «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه «رواه البخاري». 5- التكبير والتهليل والتحميد: لما ورد في حديث ابن عمر السابق: «فأكثروا فيهن من التهليل والتحميد». قال الإمام البخاري رحمه الله:«كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما». وقال أيضاً: «وكان عمر يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل السوق حتى ترتج منى تكبيراً». وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات على فراشه، وفي فسطاطه، ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعاً. والمستحب الجهر بالتكبير للرجال لفعل عمر وابنه وأبي هريرة رضي الله عنهم والنساء يكبرن ولكن بخفض صوت، لما جاء في حديث أم عطية: «... حتى نخرج الحيض فيكن خلف الناس، فيكبرن بتكبيرهم ويدعن بدعائهم...» «رواه البخاري ومسلم». فحري بنا نحن المسلمين أن نحيي هذه السنة التي هجرت في هذه الأيام، وتكاد تنسى حتى من أهل الخير والصلاح بخلاف ما كان عليه السلف الصالح. والتكبير نوعان مطلق أو مقيد، جاء في فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء:«يشرع في عيد الأضحى التكبير المطلق، والمقيد، فالتكبير المطلق في جميع الأوقات من أول دخول شهر ذي الحجة إلى آخر أيام التشريق، وأما التكبير المقيد فيكون في أدبار الصلوات المفروضة من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، وقد دل على مشروعية ذلك الإجماع، وفعل الصحابة رضي الله عنهم. وسُئل فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله هل يقدم التكبير على الاستغفار والذكر المشروع أدبار الصلوات؟ فأجاب:«إن الاستغفار، واللهم أنت السلام، ألصق بالصلاة من التكبير، فالاستغفار عقب الصلاة مباشرة لأن المصلي لايتحقق أنه أتقن الصلاة بل لابد من خلل». وصيغ التكبير: أ- الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً. ب- الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد. ج- الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر ، الله أكبر ولله الحمد.