صدر للشيخ عبدالله بن خميس مجموعة من المؤلفات القيمة عن تاريخ وجغرافية وسط جزيرة العرب او ما يعرف الآن بالمملكة العربية السعودية بدأها بكتابه .المجاز بين اليمامة والحجاز ثم .معجم اليمامة و.الدرعية و.تاريخ اليمامة و.جبال الجزيرة و.رجال الجزيرة ويعتبر كل من هذه الكتب الستة موسوعي المحتوى في موضوعه خاصة ما يتعلق بالمكان والأعلام الجغرافية وما يكون لها من مزايا مكانية وما ارتبط بها من احداث تاريخية او ذكريات وجدانية وقصص طريفة في حكايات السمار والعشاق او حتى الصعاليك وغيرهم مما يضيف للادب العربي زخما وحيوية ويخصب مخيلات الادباء والشعراء والقصاصيين. يقف شيخنا الفاضل عند كل موضع او علم ليعرفنا باسمه القديم او الحديث ان كان قد تم تغييره ويشرح لنا معنى التسمية او نسبتها او سببها وما قيل فيه شعرا قديما وحديثا وما يضرب به من مثل ان كان جبلا او ماء او واديا ولا يفوته ذكر نباته وطبيعة ارضه وتكونه وما ارتبط به من اسماء القبائل التي سكنته في الماضي او التي تسكنه في الحاضر ولا يفوته ايضا ان يحقق الروايات التي قيلت عنه فيرجح اقواها وهذا بحد ذاته جهد علمي يستحق الاشادة ويحسب له وهو يوازي جهود اجدر الباحثين الذين تطرقوا الى بحث مثل هذه القضايا كالاستاذ حمد الجاسر والاستاذ سعد الجنيدل والعقيلي والانصاري والعبودي وغيرهم ولكن تبقى لشيخنا الفاضل ميزة على الجميع وهي انه لا يكتفي بايراد المعلومة وتحقيق الرواية وحبك السياق الموضوعي وانما يتميز بتلك الوقفات الشاعرية الوجدانية امام هذا الموضع او ذاك فيحليه وصفا مغدقا ويجلّيه معنى مورقا حتى لكأنه عندما يخاطب المكان يخاطب كائنا حيا يستنطقه فينطق ويسائله فيجيب. استوقفني هذا الجانب في ادب الشيخ عبدالله بن خميس,, في شعره فألمحت اليه اكثر من مرة في بحوثي السابقة وهو يستوقفني ايضا في مؤلفاته التاريخية والجغرافية حيث نقف فيها على بعد أدبي ملهم يتخللها لا نجده في مؤلفات الآخرين وهذا هو ما جعل الاستاذ محمود ردّاوي مؤلف كتاب .ابن خميس وآثاره الادبية يقول: .ويتغلب ابن خميس دائما على جفاف المادة التي يصفها ببراعته وثقافته وبعينه الشاعرية وبتحويل منظوره الى حياة تعج بالصور والتجارب والاسترسال معه ومع معلوماته ومشاهداته وانطباعاته لانه يعرف كيف يمزج الماضي بالحاضر والقديم بالجديد من خلال اسلوبه الرصين وتشخيصه الشائق واستشهاده اللائق ويلبس ابن خميس معلوماته التاريخية القديمة ثوبا جديدا عصريا ويتخذ منها موقفا متطورا وذلك من خلال شفافيته الشاعرية وعمقه الفكري وحسه التاريخي ونفاذه الوجداني .1 . ويتجلى البعد الادبي في وقفات شيخنا الفاضل الجغرافية عندما يسجل لنا خواطره العميقة امام جبل ْ جبلة ْ على ضفة وادي الرشا .التسرير قديما في عالية نجد في كتابه .المجاز بين اليمامة والحجاز حين يقول: .جبلة: واذا اقتحم نظرك .افقري و.ضليع العجمان وانت هنا بمحاذاة .ابي دخن برزت لك هضبة .جبلة متبرجة سامقة بشماريخها ورعانها وشقرتها وجمال منظرها وكأنما ترى لنفسها الصدارة والامارة على ما حولها من اعلام تراها اقزاما تنحني امام قامتها العملاقة ومناكبها المتعالية,, ان .النشاش و.عبيد الرشا و.واردات و.الاخيضرات و.الرشاوية و.الشعيفية هذه الجبيلات المحيطة بهضبة .جبلة مجموعة جبلية تأخذ صفاتها وتحدد ابعادها وتنسب الى ركيزتها الكبرى .جبلة . .جبلة: قصيدة عامرة وخاطرة متكاملة الصور متساوقة الرؤى متلاحمة الاخيلة,, منظرها وانفساح الاجواء حولها وتاريخها الحافل بأيام الاجيال وملاحم الابطال وتحمّل الاضعان وانيثال قطعان الماشية وخوانس الظباء,, إلهام شاعري يروض الشوارد ويقيد الاوابد وتتنزل له نغمات الوتر ونفحات السحر ما اجملك جبلة تتربعين على شاطىء وادي التسرير وتصافحين صبا نجد تحمل عرف الشيح والقيصوم وتتخلل الرمث والعرار وتداعب الاقحوان والخزامى,, لو نطقت معتدلات المناكب منك لما اعوزها الحديث عن واله يبثك وجده ومشاعر يروض فوقك قوافيه وأليفين يتساقطان حلو الحديث ويشكوان حرارة الشوق,, لانت قصيدة مملوءة بالعبر ناطقة عمن غبر لئن عزك الرؤى والقافية ففيك الفكرة المتألقة والنفحة الفاغية .2 . يقول الاستاذ محمود رداوي في خاتمة تعقيبه على كتاب شيخنا الفاضل .المجاز بين اليمامة والحجاز .وهكذا نخرج من رحلات ابن خميس بانها معرض حضاري متنقل يفتح الآفاق للدارسين,, اينما مصدر ثر وشائق لصنوف المعرفة تمتزج فيها الموضوعْية بالذاتية والريْْْْادة بالشاعرية .3 . وتفيض مشاعر شيخنا الفاضل ويتألق اسلوبه الادبي ويزخر بالصور الوجدانية المتلاطمة عندما نقف معه وقفة اخرى امام جبل طويق العظيم حيث يقول في كتابه .معجم اليمامة : .طويق بضم الطاء وفتح الواد واسكان الياء فقاف,, جبل اليمامة الاشم يسمى اليمامة : فأعرضت اليمامة واشمخرت كأسياف بأيد مصليتنا ويسمى العارض: وأكاد من شغفي بما انشدته اطوي اليك تهامة والعارضا ويسمى طويقا: ولو ان قلب طويق باح بسره لم يعد ما هو شف عنه مجلجل وفي الشعر الشعبي: لو ان ما بي يصيب طويق وهضابه كان اصبح الضلع مثل القاع متساوي وخشوم طويق فوقنا كن وصفها سلال السيوف اللي تجدد جرودها يبدأ من رمال الثويرات شمال الزلفي ويذهب مجنبا حتى يندفن طرفه في الربع الخالي جنوبا اي بما تقدر مسافته بألف كيل فطرفاه تبتلعهما الرمال شمالا وجنوبا وفيه وحوله خضراء اليمامة من نخيل وزروع ومدن وقرى وتسيل منه عشرات الاودية الكبار ويضم من سكان المملكة نسبة كبيرة وفيه وحوله آثار عمران وطلول حضارة ومخلفات امم وصفحات اجيال: وفيه قلت ْ وما زال الكلام لشيخنا الفاضل يا جاثما بالكبرياء تسر بلا هلا ابتغيت مدى الزمان تحولا شاب الغراب وانت جلد يافع ما ضعضعت منك الحوادث كاهلا ترنو الى الاجيال حولك لاتني تترى على مر العصور فصائلا واراك معتدل المناكب سامقا تبدو بك الشم الرعان موائلا وكأن عمرا خالها اذا اعرضت مثل السيوف المصلتات نواحلا بالامس لم تمض القرون ولم تبد في سفحها للقاطنين عقائلا يا ايها العملاق زدنا خبرة عمن اقاموا في ذراك معاقلا واقصص علينا اليوم من اخبارهم ما ثم من احد يجيب السائلا عن طسم حدثنا وعن جبروتها لما استباحت من جديس عقائلا وجديس اذ هبت لتثأر منهم تخفي تحت الرغام مناصلا واذكر عن الزرقاء ما فاهت به عن نظرة تطوي الحزون مراحلا وعن الحمائم اذ مررن خواطفا هل كان ذاك الحكم منها باطلا واذكر حديثا عن حنيفة مسهبا واذكر ربيعة في حماك ووائلا واقصص عن الاعشى وهوذه والالى من بعدهم ملأوا الحياة فضائلا حيث انبرى وادي حنيفة صارخا في امة تدعو القبور وسائلا زدنا حديثا عن اؤلئك شائقا اضحت بطون الكتب منه عواطلا واشهد لعصر المعجزات عجائبا تترى وكان العلم عنها غافلا اذ كنت لا تحنو لحي قمة وتصر الا ان ترى متطاولا وتحمل الركب المغذ مصاعبا متجشما تلك النجاد مراحلا ويؤمك الباغون اخوة جحدر يجدون في تلك الهضاب معاقلا واليوم ترمقك العيون مطأطئا تبدو صغيرا تحتها متضائلا والسفر تمرح في رحابك امنا ويشق منك مناكبا وجنادلا ولسوف تشهد ما اقمت غرائبا وترى امورا في حماك جلائلا وتمد ايدي العلم فيك سواعدا تضفي عليك من الجمال نمائلا وترى شعابك بالمعين مليئة تسقي جنانا تحتها وخمائلا وقد بهرت هذه القصيدة لشيخنا الفاضل وأهاجت الشاعر الكبير احمد ابراهيم الغزاوي فعارضها اعجابا بها بقصيدته الرائعة .طود اليمامة والتي جاء فيها قوله: ما لابن كلثوم عليه من يد .* شروى بديك وقد بسطت واجملا .* وكأن ما ارسى الجزيرة كلها طود اليمامة راسخا ومكللا انطقته والصمت ملء بجاده فسرا واعرب واستفزو واعجلا وابان من خلجاته وكأنها نجوى الخلود وقد دعا وتمثلا عدنان او قحطان عنه تلقيا ما نصت الفصحى أغر محجلا اني ورب البيت غير مجازف فيما ارتجلت ولا وهمت تمحلا كلا ولكن هزني واهاجني شعر به تمشي السراة الخيزلى بل انما هي نفثة من شاعر قد راعه هذا البيان فأرقلا ما الشعر الا من هنالك نبعه وهو الذي اقتحم البحور وقد حلا ما كنت قبل اليوم احسب انني اصغي الى هذا الحديث مسلسلا حتى انبهرت به تسائل فجأة يا جاثما بالكبرياء تسربلا فازددت ايمانا بماضينا الذي لا نرتضي الا به مستقبلا اما الناقد الادبي الدكتور محمد صالح الشنطي فقد القى ضوءاً فاحصا على هذه القصيدة نختصر منه الآتي. .ابن خميس لم يتحدث عن الجبل على اطلاقه بوصفه معلما طبيعيا وحسب بل تحدث عن جبل محدود له وجوده الجغرافي المتعين وذاكرته التاريخية الخاصة. وقد استعرض الشاعر البعد التاريخي المجرد حين اومأ الى طول العهد بهذا الجبل الشامخ ثم توقف عند الوجود التاريخي المخصوص فذكر القبائل البائدة كطسم وجديس والعرب المستعربة وانتقل من القبائل الى الشعراء ثم خلص الى الحاضر. وقد نهج الشاعر اسلوب التشخيص فجعل من الجبل كائنا بشريا يخاطبه بصفات مستحبة وبنعوت بشرية ويقارن بينه وبين الكائنات الاخرى مؤكدا صموده على مر الزمن مستخدما وسائل بلاغية مألوفة في التراث العربي القديم فقد شاب الغراب وهو ثابت ومن المعروف ان الغراب يضرب به المثل في هذا المجال وهو يعمد الى الصورة القائمة على التشبيه فيفصل المشبه به ويتتبع احواله في منحى استقصائي من شأنه ان يجعل الصورة ذات تفاصيل يستولدها ويفرعها فتمنح المعنى ابعادا جديدة. فبعد ان شبه مرور الاجيال على الجبل بالضيوف راح يفرع الحديث عن هؤلاء الضيوف فيشبه بعضهم بالجبل في استعارة مستقاة من وصف امرىء القيس لليل ثم استرسل في شرح حالهم بما يومىء الى تغيرات الزمن وبقاء هذا الجبل على حاله وقد غلب الجانب الوصفي الذي يتوسل بالمضارع والجمل الاسمية في دلالتها على الثبات والاستقرار بما يلائم حال هذا الجبل الراسخ الصامد في وجه الزمن. وقد استهل الشاعر قصيدته باسلوب النداء والمنادى المكنى عنه كناية عن موصوف وقد كانت المراوحة بين الجمل الفعلية ذات الفعل المضارع حينا والماضي في بعض الاحيان والجمل الاسمية ذات دلالة تومىء الى الثبات والتغير حيث يبدو هذا الجبل ثابتا بينما تتغير احوال الزمان والانسان كذلك فان الشاعر لم يغفل بحال من الاحوال اساليب الطلب تلك التي تتوسل بالامر مما يخرج المتلقي من سكونية الاستقبال الى حركة الفعل واستنفار الحواس. وقد حرص الشاعر على المعجم القديم بكل جزالته وما يختزنه من ايقاع جهير وكثرة حروف المد كثرة واضحة تفسح مجالا واسعا للايقاع المنبىء عن امداء الرؤية التاريخية .6 اذا كان شاعر كبير مثل الغزاوي رحمه الله تعالى تبهره مخاطبة ابن خميس للمكان وتهيج مشاعره وتستفز اعجابه وتستدعيه لينسج على منواله ازاء عين المكان وعلى ذات السياق واذا كان ناقد متخصص مثل الدكتور الشنطي يتوصل الى الشيء ذاته بأن ابن خميس يستنفر الحواس ويحرك سواكن النفوس والوجدانات فهذا هو الفرق بين ما كتبه شيخنا الفاضل في رحلاته وبحوثه الميدانية وما كتبه سواه مما يبرز رائدا متفردا في تضمين مزايا المكان لإبداعه الادبي ولتحقيقاته التاريخية والجغرافية فجاء البعد الادبي طابعا مميزا لها. المراجع والهوامش: .1 ابن خميس وآثاره الادبية ص 75 الاستاذ محمود رداوي. .2 المجاز بين اليمامة والججاز ص 98 الشيخ عبدالله بن خمس. .3 ابن خميس وآثاره الادبية ص 85. .4 معجم اليمامْْْْة,, على ربى اليمامة ص 117 ص 277 الشيخ عبدالله بن خميس. .* يشير الغزاوي هنا الى بيت عمر بن كلثوم: واعرضت اليمامة. .* المخاطب هو الشيخ ابن خميس. .5 على ربى اليمامة ص 287 الشيخ عبدالله ابن خميس. .6 في الادب العربي السعودي ص 139 الدكتور محمد صالح الشنطي.