عندما يجس الطبيب بمناظيره وتحاليله أو أدواته التشريحية عين الإنسان فإنه يقرأ مكوناتها ويقوم بوصفها وصفاً علمياً وميكانيكيا. أما الشاعر فيراها بشعوره الفني والأدبي، رؤية سريالية تميل إلى اللاواقع ولكن ثمة دافع غريزي جعله يشعر بها كما تدفعه تلك الغريزة مثل قول جرير بن عطية التميمي: إنّ العُيُونَ التي في طَرْفِها حَوَرٌ قتلننا ثمَّ لمْ يحيينَ قتلانا يَصرَعنَ ذا اللُّبّ حتى لا حَرَاكَ بهِ وهنَّ أضعفُ خلقْ اللهِ أركانا ويقول يزيد بن معاوية في وصف الدموع والبكاء وجمال الوجه والفم والأسنان في صور واستعارات بلاغية غاية في الجمال تتجلى فيها تلك الصور الخيالية فبالرغم من عدم واقعيتها ووصفها لماهية العين والخد واحمرارهما إلا أنها كانت أكثر جمالا وقبولا وأكثر انتشاراً: وأمطرتْ لُؤلؤاً من نرجسٍ وسقتْ ورداً، وعضتْ على العِنابِ بِالبردِ وكذلك الفرق بين من يصف الجبال والصخور برؤيته الفنية وإحساسه وخياله وبين جيولوجي الصخور الذي يقوم بفحص المحتوى المعدني والعلاقات النسيجية داخل الصخور، ويبدأ وصف الصخور بالملحوظات الميدانية في منكشف الصخر، ويتضمن وصفًا بالعين المجردة كذلك. غير أن الإنسان العادي مفطور على رؤية الأشياء رؤية سريالية في الغالب فهو يتخيل الصخور أشكالا تستنطق المتأمل ويستنطقها في أنسنة للجماد خارج الواقع. ومن هذا المنطلق السريالي للرؤية الفنية والقراءة التأملية سنعرج إلى جبل شدى الأعلى بمنطقة الباحة كأنموذج وهو واحد من الشدوين، والشدوان هما جبلان شامخان أحدهما شدى الأعلى والآخر شدى الأسفل، وأما شدى الأعلى فهو جبل أحمر ضخم يعد من أعلام الجبال في المملكة وأشهرها في منطقة الباحة، حيث لا يقل امتداده عن 35 كلم من الشمال إلى الجنوب وبعرض 17 كلم وله قمم شاهقة، ومناكب عالية، ورِعان يتصل بعضها ببعض ويسميه البعض "ملك الجبال" وهو يتوسط محافظتي المخواة وقلوة، ويشتمل على شعاب كثيرة ومياه وأوشال كما أن أشهر القمم والرعان الباذخة في هذا العملاق لها مسميات ومنها القارة، والقويرة، والحبلى، والتحي قمتان متناوحتان متساميتان متجاورتان تظهران بلون أقرب إلى الاحمرار المتلألئ وتمثلان مقدمة شدى الأعلى من جهة محافظة قلوة شمالا ثم قمة مصلى إبراهيم، وهي أعلى قمم شدى بها يقع مصلى أثري قبلته باتجاه القدس وينسب إلى إبراهيم حيث يرى بعض المؤرخين أنه إبراهيم بن أدهم ولكن قبلته باتجاه القدس تعني أنه أقدم بكثير. كما أن شدى الأعلى يضم محمية شدى فهو موطن النمر العربي والفهود وعناق الأرض والثعالب الحمراء النادرة والذئاب والضباع والأوبار وكانت موطنا للوعول والضباء لاحتواء بعض كهوفه على رسوم ملونة أثرية لتلك المنقرضات، كما أنه يتميز بندرة الغطاء النباتي ويكتنف النباتات الطبية النادرة وغابات من السدر والسلم والقرض وأشجار العدن والرقع والإبراه وغيرها من الأصناف. ومن حيث القراءات التأملية واللوحات السريالية التي تكتنفها صخور الجرانيت والكهوف العجيبة في هذا الجبل الأشم العملاق فأنت أمام أضخم متحف في العالم وأمام أجندة تتحدث بكل الصور والأشكال ولك أن تبحر في تلك الصور السريالية واللوحات العجيبة التي تشكلت من تجويفات تكونت منذ ملايين السنين وجعلت إنسان الكهوف يرسم ويعبر عن عواطفه وشعوره ودهشته بل إن تفسيره للأشكال الملهمة قاده إلى التعبير بالرموز والصور. قال الشاعر الأموي يعلي الأحول الأزدي واصفا للشدوين وهو حبيس خلف القضبان في مكةالمكرمة بعد أن سجنه أميرها نافع بن علقمة الكناني فقال: أرقت لبرق دونه شدوان يمان وأهوا البرق كل يمان فبت لدى البيت الحرام أخيله ومطواي من شوق له أرقان أنسنة الجبال والكهوف والتشكيلات الصخرية والهضاب والآكام والتلال والأشجار والطيور والبحار والنجوم واستنطاقها كله مخالف للواقع، ولعدم محدودية خيال الإنسان فإنه يصور الأشياء من خلال اللاشعور والعواطف والغرائز والمواقف، وقد أجاد استنطاق الجبال شاعر الأندلس إبراهيم بن خفاجة حين قال: وأرعن طماح الذؤابة باذخ يطاول أعنان السماء بغارب يسد مهب الريح عن كل وجهة ويزحم ليلا شهبه بالمناكب وقور على ظهر الفلاة كأنه طوال الليالي مفكر في العواقب يلوث عليه الغيم سود عمائم لها من وميض البرق حمر ذوائب أصخت إليه وهو أخرس صامت فحدثني ليل السرى بالعجائب وقال إلى كم كنت ملجا قاتل وموطن أواه تبتل تائب وكم مر بي من مدلج ومؤوب وقال بظلي من مطي وراكب كذلك هو الحال لدى الشاعر والأديب والمؤرخ عبدالله بن محمد بن خميس -رحمه الله- في وصفه لجبل طويق الجبل الأشم الباذخ في نجد فقال مستنطقا ذلك الجاثم العملاق: يا جاثما بالكبرياء تسربلا هلا ابتغيت مدى الزمان تحوُّلا شابَ الغرابُ وأنت جَْلدٌ يافعٌ ما ضعضعت منك الحوادث كاهلا وأراك معتدل المناكب سامقاً تبدو بك الشمّ الرعان مواثلا وكأن عمرا خالها إذا أعرضت مثل السيوف المصلتات نواحلا يا أيها العملاق زدنا خبرة عمن أقاموا في ذراك معاقلا واقصص علينا اليوم من أخبارهم ما ثم من أحدٍ يجيب السائلا عن طسم حدثنا وعن جبروتها لما استباحت من جديس عقائلا وجديس إذ هبّتْ لتثأر منهم تخفي لهم تحت الرغام مناصلا واذكر عن (الزرقاء) ما فاهت به عن نظرةٍ تطوي الحزون مراحلا واذكر حديثا عن (حنيفة) مسهبا واذكر "ربيعة" في حِماك و "وائلا" واقصص عن الأعشى وهوذة والألى من بعدهم ملؤوا الحياة فضائلا