ازدادت سرعة الملك لدى الإنسان في هذا العصر المليء بالمملات، وفشت في المجتمعات العربية ظاهرة كثرة «البربرة» المصحوبة بقلة الإصغاء.. لقد كان الزمان مقبلاً على عاشوراء.. وكان المكان في أحد المساجد.. وكنا قد فرغنا لتونا من صلاة العشاء.. طلب الشيخ قائداً يقوده إلى منصة الإلقاء.. بدأ خطبته بابتسامة يرافقها خجل وحياء، وحيانا بتحية الإسلام، وبكل أدب وصفاء نفس أخذ يعتذر فقال: أعذروني إخواني لقد أثقلت عليكم كثيراً، وسأنهي اليوم حديثي الذي كنت بدأته في اللقاء السابق عن نعيم الجنة، وحياة الإنسان فيها، وأعدكم بالاختصار وأرجوكم سامحوني لأني سآخذ دقائق من وقتكم الثمين.. ودعا لجميع المصلين.. وتكلم بأسلوب خيالي هادىء ورائع عن الجنان التي أعدها الرحمن لعباده المؤمنين، وشرح أعمالاً بسيطة يؤديها الإنسان ليفوز بالجنة.. وذكرنا برحمة الرحمن بخلقه، وكرمه معهم.. وكان أثناء حديثه الممتع يحاول شد انتباهنا، فكان يخرج من جيبه ساعة دائرية بيضاء.. لها غطاء زجاجي متحرك، تعرفونها.. إنها الساعة التي يرى المكفوفون الوقت فيها بأصابعهم.. لقد أخرجها مراراً، ليشعرنا بأنه مهتم بوقتنا وحريص على الالتزام بزمن حدده مسبقاً.. وقد قال أكثر من مرة: أعذروني أحبائي لقد أثقلت عليكم.. وكان المستمعون يقولون في أنفسهم، لا تقل ذلك يا شيخنا، لست أبداً ثقيلاً علينا.. أعذرنا أنت، نحن من أثقل عليك.. وجزاك الله عنا خير الجزاء. قبل أن يقف ذلك الشيخ الفاضل أمام المصلين ليحدثهم عن أحوال الجنة، استوعب تماماً أن هؤلاء البشر تعودوا الفرار فور انتهاء الصلاة، لانشغالهم بمشاغل الحياة التي لا ولن تنتهي.. كان يدرك أنه بمجرد مثوله أمام «المايك» سينصرف معظم المصلين.. فوضع لهم خطة محكمة وطبقها بطريقة فنية رائعة تنم عن علمه وذكائه حفظه الله. لقد استطاع كسر الملل بأدب ولطف وتواضع.. لقد كان في أسلوبه الراقي تشويق للمتلقي لا يوصف،.. لقد تمكن بالفعل من احتجاز كل المصلين.. كلهم.. هل تصدقون؟.. ماذا؟.. لا تصدقون!!.. إذاً أضيفوا إلى معلوماتكم.. وبعد حوالي نصف ساعة انتهى الشيخ من حديثه، ودعا لنا وودعنا بتواضع واعتذار.. رفضنا ذلك.. لم نقبل الوداع. كلنا طلبنا من الشيخ البقاء.. طالبناه بالمزيد، وطالبه الإمام بالحديث عن فضل صيام عاشوراء، فبدأ حديثه كعادته بأخشى أن أثقل عليكم.. وتحدث عن فضل صوم عاشوراء حديثاً هادئاً ممتعاً ومقنعاً، هز مشاعري الدينية، فعزمت أن اصوم بعد أن استوعبت من أستاذنا الفاضل فضل صيام عاشوراء.. وتبارك سبحانه من قال { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. [email protected]