عندما تبدأ طلائع المشيب في رأسه ويغزوه الشيب بجيوشه، فبينما هو راقد في ليل الشباب أيقظه صبح المشيب، فرأى الدنيا بمقلته نكداً وغمّاً وطغى الحزن على نفسه وعمَّ، وأصبح المشيب عنده عنواناً للموت، بل عند بعضهم مجمع الأمراض، وحال ألسنتهم تردد: أخي قمّ فعاوني على نتف شيبة فأني منها في عذاب وفي حرب فما بعد الشيب سوى الموت. وما الذي يرجى منه، فقد تخاذلت قواه، وضعف حسه، وأصبح يرقبه المنون بمرصد، قد بلي عمره، وانطوى عيشه، وبلغ ساحل الحياة، ووقف على ثنية الوداع فلم يبق إلا أنفاس معدودة، وحركات محصورة. وضده ذلك الذي عندما جاوز من الشباب مراحله، وقد ورد من الشيب مناهله، وأدرك عصر الحنكة فجمع ما بين قوة الشباب إلى وقار الشيب، ومضى يسعى في معترك الحياة غير آبه بمن حوله، فهو يعد الشيب حلية العقل، وشيمة الوقار، ويسري في طريق الرشد بمصباح الشيب، فهو بمثابة الزبدة التي مخضتها الأيام، والفضة التي سبكتها التجارب، ولقد زادته الأيام تهذيبا وتحليما، وتناهت به السّنُّ تجريباً وتحنيكاً وهو الذي عندما رأى الشيب قال: عيب لا عرفناه وما أحسن ما قاله الشاعر: ولمّا رأيت الشيب حلَّ بياضه بمفرق رأسي قلت: أهلا ومرحبا