مما اكرم به هذه الامة الاسلامية من بين سائر الامم، وخص به هذا الدين من بين سائر الاديان هذا الحج، الذي لم يعرف في تاريخ الاديان والشعوب والامم نسك يضاهيه في التأثير والاصلاح وربط القلوب بعلام الغيوب فسبحانه من جعل بيته الحرام مثابة للناس وامنا، يترددون اليه ويرجعون عنه ولا يقضون منه وطرا وذلك لما جعل الله في قلوب المؤمنين من الحنين الى البيت العظيم, ورغم كثرة تكاليفه ومشاقه وتعريض النفس للاخطار الا ان القلوب لا تزال متعلقة بهذا البيت فلا يقضون منه وطرا فيخرج الواحد منهم من بيته فيتحمل المشاق، فيركب البحار حينا، ويقطع البراري والقفار حينا آخر، ويتجشم الاخطار وقد يتعرض للمخاوف وما يتبع ذلك من مفارقة الاهل والاوطان ويقبل التزامات الاحرام ومحظوراته مع الابتعاد عن الرفث والفسوق والجدال والخصومات كل ذلك كان كفيلا اذا ادى المكلف هذه العبادة على اتم وجه واكمله وبذل اقصى طاقة في احسانه،واكماله وتتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم بقدر الامكان والجهد، كل هذا كفيل بان يرجع الحاج الى بيته كيوم ولدته أمه، ففي الحديث: (عن ابي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته امه) رواه البخاري فتأمل قوله (لله) وحديث: عن ابي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة الى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء الا الجنة) رواه البخاري. لكن هذا لمن ادى هذه العبادة وفق هدي النبي صلى الله عليه وسلم وبذل وسعه في معرفة فقه الحج وآدابه وسننه لانه قد يتحمل الحاج المشاق، وقد يأتي من مسافات بعيدة اشعث اغبر لكنه لا يؤدي الحج وفق هدي النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لشدة جهله بأحكام مناسك الحج, قال العلماء يجب تعلم العلم واحكام العبادة قبل التلبس بها ولذلك سأل أحد الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم قبل ان يصل ميقات ذي الحليفة وقال يا رسول الله ما يلبس المحرم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يلبس القميص ولا العمامة ولا السراويل ولا البرنس ولا ثوبا مسه الورس او الزعفران فان لم يجد النعلين فيلبس الخفين وليقطعهما حتى يكون تحت الكعبين) رواه البخاري ولكن اذا دخل في العبادة وهو جاهل بأحكامها، او اكثرها فلا شك انه سيقع في المحظورات. ان الله دعا عباده الى هذه الفريضة العظيمة ليشهدوا منافع لهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم، فأتوه من كل فج عميق رجالا وركبانا شعثا غبرا قد اختلفت الوانهم وذابت احسابهم وظهرت فيهم اخوة الاسلام في ابهى حللها، واجمل صورها فيقفون في هيئة واحدة، وفي صعيد واحد، في اشرف الاماكن المسجد الحرام، وفي اشرف الازمان عندالله، عشر ذي الحجة ومنها يوم عرفة فما طلعت الشمس على يوم احب ولا اكرم عند الله من ذلك اليوم، فليس هناك يوم اكثر من ان يعتق الله فيه عبادا من النار من يوم عرفة. ويتذكر فيه الحاج مآثر التوحيد وما كان عليه ابراهيم الخليل من تجريد العبادة لله الواحد الاحد. ويتذكر الحاج مواقف اهل الفضل والصلاح من الانبياء والصالحين حتى يستشعر المسلم روحانية هذه العبادة فلا يؤديها الا بقلب حاضر ويتذكر الحاج أمنا هاجر عندما كانت تسعى وهي مهمومة خائفة فكشف الله ما بها وتولى تفريج همها ولم يكلها الى احد غيره، وكم من حاج يأتي بهموم وحاجات ودعوات يقصد بها ربه، ومن قصد البيت العظيم وتوجه الى ربه الكريم الذي لا يخيب قاصدا فحاجته مقضية. ويتذكر الحاج وهو يرمل يوما اعز الله الاسلام واهله واظهر النبي صلى الله عليه وسلم على اعدائه فالحج تجديد للايمان وتحرر من الاوضاع والاعراف، ودعوة الى التوحيد والتجرد من مظاهر الشرك، وتوطين للنفس على المشاق والمكاره، فهل هي الدنيا عبادة تضاهي فريضة الحج وتساميه في الاصلاح والتأثير؟ اترك الاجابة لانها واضحة. هذا وأسأل الله ان يجعل ذنبنا مغفوراً وسعينا مشكورا وحجنا صالحا متقبلا مبرورا. عبدالرحمن التركي