في يوم من الأيام كنت أجلس أمام «الأستاذ عبدالرزاق القضيب» معلمي في المرحلة الابتدائية، كنت أنظر إليه واستمع إلى شرحه للدروس وفي مخيلتي ألف سؤال وسؤال لم أكن شجاعا لدرجة أن أسأل استاذي تلك الأسئلة الكثيرة عن حياته وأيامه وذكرياته.. وكلما دخل علينا في الصف كلما زادت حيرتي وتكاثرت علامات التعجب في مخيلتي.. ولكن للأسف لم أجد الفرصة للبوح بما أفكر به تجاه هذا الرجل الكفيف الذي يدرسني في المدرسة وأراه في السوق والشارع والمطار وفي كل مكان.. كبرت وتخرجت من الابتدائية وكبرت معي جميع تساؤلاتي.. واليوم وبعد ان أصبحت زميلاً لمعلمي في مهنة التعليم.. تشجعت واتصلت به على الهاتف الجوال.. قلت له أنا تلميذك في المرحلة الابتدائية هل تذكرني؟؟ قال لي أذكرك جيدا.. قلت لقد حان الوقت لانفجار براكين الأسئلة التي دارت في خاطري اعواما طويلة.. سوف أزورك في بيتك ولكن هذه المرة أزورك محققا معك عن كل ما كان يدور في خيالي في الأعوام الماضية، وليس ذلك الطفل البريء الذي يخاف من السؤال؟ قال لي: على الرحب والسعة.. لقد دخلت إلى بيت أستاذي وكل حركاته العالقة في ذاكرتي تتراقص أمامي مختلطة بما سمعته عنه من أخبار غريبة وحكايات متنوعة زادت من شغفي لزيارته واللقاء به عبر «شواطئ الجزيرة».. فيا ترى كيف تعلم الأستاذ الكفيف؟ وكيف تزوج؟ كيف يسافر؟ كيف يتعامل مع الحياة؟ ما الذي دفعه لكل تلك المغامرات الصعبة؟ هذا ما حاولنا الاحاطة به وباختصار شديد من خلال زيارتنا له.. ولد الأستاذ عبدالرزاق في مدينة سكاكاالجوف عام 1364ه وكان كفيفا منذ ولادته.. ولد وولدت معه الارادة القوية والتصميم على ممارسة الحياة كما هو حال المبصرين فبدأت من هنا رحلة الكفاح مع الحياة ومصاعب الزمن التي قد تعيق كثيراً من المبصرين فضلاً عن المكفوفين.. معلم بجدارة بدأ تعليمه عام 1374ه وواصل التعليم حتى وصل إلى معهد النور بالرياض عام 1380ه وتخرج من المعهد في عام 1396ه.. بعده اكمل في كلية المعلمين بالاحساء عام 1410ه وحصل على شهادة الدبلوم في التعليم فكان خير المعلم لأبنائه التلاميذ.. والآن له من الخدمة ما يقارب «28» عاما يتخللها العديد من المغامرات والأحداث والقصص العجيبة.. الزوجة من مصر! أما الزواج.. وما أدراك ما الزواج؟ فله مع عبدالرزاق قصص وحكايات.. فعندما قرر الدخول إلى عالم الحياة الزوجية سافر إلى مصر الشقيقة.. والغريب في الأمر انه يقسم على ذهابه وحيداً دون مرافقة أي إنسان لا من قريب ولا من بعيد.. فسهل الله أمره وعاد إلى الوطن وأكمل إجراءات الزواج وجاء بزوجته إلى هنا وعاشت معه بسعادة حتى رزقه الله منها «11» مولودا من ذكور وإناث.. وبعد سنوات عديدة قرر صاحبنا تكرار التجربة ولكن مع زوجة من السعودية وبالفعل تزوج الثانية وانجب منها «5» أولاد.. ويقول «بيني وبينكم انا قاعد أخطط للزواج من الثالثة بس هذا الخبر ليس للنشر». السفر إلى الرياض ومن أغرب الأشياء التي وجدناها في ارشيف أيام عبدالرزاق انه يستطيع الذهاب إلى أي مكان في مدينة الرياض دون اللجوء إلى أحد بل ان اصحاب الليموزين يستغربون وصوله إلى البيت الذي يريده بالتحديد.. وهذا ما أثار استغراب العديد من أقاربه الذين زاروه في الرياض وطلبوا زيارة بعض أصدقائهم فما كان منه إلا أن ركب معهم ودلهم على الطريق الصحيح وكأن في جيبه «ماجلان»!!.. وكانت آخر رحلاته إلى مدينة الرياض قبل أيام من أجل تسجيل ابنته في الجامعة.. والغريب أيضاً انه رفض مرافقة أحد أبنائه أو أقاربه لتسهيل إجراءات التسجيل فذهب وأكمل اللازم وعاد إلى سكاكا بكل نجاح!! مهندس كهرباء! ومن خلال تفتيش «شواطئ» في حياة الأستاذ عبدالرزاق ذكر انه قادر على التعامل مع الأجهزة الكهربائية والأدوات الحساسة كالأسلاك والأفياش من فك وتركيب وصيانة، علاوة على انه يجيد أعمال السباكة ولا يؤيد الاعتماد على العمالة الوافدة في مثل هذه الأمور.. كما أكد براعته في تركيب الاطباق الفضائية وبرمجة القنوات المتنوعة معتمدا بذلك على الموجات الصوتية قائلاً «إذا كان لديكم من الوقت متسع فسوف أريكم شيئاً من ذلك الآن»!!.. هذه رسالتي للمكفوفين وآخر ما تفضل به الرجل المكافح الذي تغلب على الاعاقة وأبدع في جوانب الحياة كلها.. ادعو جميع المعاقين وبكافة أنواع الاعاقة إلى عدم اليأس والخمول والتحطيم ومحاولة التغلب على الظروف الصعبة والقناعة الأكيدة بان الحياة ممتعة وشيقة جداً إذا امتزجت بروح الاصرار والطموح وان روعة النجاح ولذته تكون أكبر إذا جاءت في ظل الظروف الأصعب.. وتذكروا ان الإيمان بالله تعالى هو الأهم وهو الدافع الأقوى إلى مواصلة الحياة بكل تفاؤل وأمل.. كما أوجه كلمة هامة للمبصرين والسليمين من أي أنواع الاعاقة مضمونها شكر الله تعالى على النعمة وعدم النظرة القاصرة للمكفوفين أو غيرهم بل يجب التعامل معهم بوعي وادراك في ظل تعاليم الإسلام السمحة وعليهم تقديم المساعدة بكل جوانبها وبقدر طاقتهم من أجل النهوض بالمعاق واشراكه في المجتمع ليتأثر ويؤثر بفاعلية ولا يقل بذلك عن أي إنسان في الحياة.