كل يوم تطلع علينا امريكا بتسمية ما، تخدم بها مصالحها ورغبتها في الهيمنة على دول العالم، والسيطرة على مواردها، ترانا - كمثقفين عرب - نهرع لتلقف وترديد ما يقال، وما يترجم لنا دون الرجوع إلى مناقشة ما نسمع وكأنه هو الصح الذي لا صح سواه، وكأنه منزل من السماء وما علينا الا القبول به على ماهو عليه، حتى وان اضر بنا وبمصالحنا، فعندما نزل إلى الاسواق كتاب الامريكي صموئيل هانتغتون بعنوان صراع الحضارات، ردد المثقفون في الصحف والمجلات والاذاعات العربية هذه العبارة او التسمية دون مناقشتها هل هي صح ام خطأ؟ لا اعلم كيف تتصارع الحضارات؟ اعلم ان الثيران تتصارع وأن الديوك تتصارع، اذ لا عقل لها اما الحضارات والتي تعني عقول اجيال كاملة وتجربة الاف السنين، لا استطيع ان استوعب عقليا كيف انها تتصارع.؟ بل ان المنطق والعقل يأبى أن يقبل هذا. إن الحضارات التي صنعتها الاجيال بمختلف شعوبها وثقافاتها لا يمكن أن نقول انها تتصارع، إذ إن الحضارات وكما شهد التاريخ تتلاقح وتؤثر على بعضها البعض، الحضارات تعطي وتربي بعضها البعض لانها جهود شعوب كثيرة وتعب ملايين تشعر انها عزلاء امام خطر الطبيعة او الفناء، لذا تتحد لتكون اللبنات الاولى لما نسميه حضارة ليكون هناك صرحا، سقفا، حماية للمبادئ، اخلاقا وليكون هذا بالتالي ارثاً لمن يأتي من اجيال او شعوب اخرى. اما ما كان من حروب وصراعات في التاريخ فهي مصالح دول ورغبة منها في السيطرة على دول اخرى واستغلال ثرواتها واستعباد شعوبها، ان كان باسم الدين او بأي اسم آخر، ولو القينا نظرة تاريخية على كل الحروب في التاريخ، نجد أن المصلحة الاقتصادية او الرغبة في التوسع للحصول على المزيد من الرفاهية للطبقات الحاكمة اولا او لتصريف ازمتها هي السبب الاول في اشعال تلك الحروب. اذن ما علاقة الحضارة بالصراع؟ ان امريكا التي اطلقت كلمة العولمة واطلقت تسمية القرية الكونية لضم العالم جميعا تحت رحمتها بعد انهيار الجبار الآخر «الاتحاد السوفيتي» الذي كان يقف بوجهها ويعرقل خططها ورغبتها في الهيمنة على العالم، تأتي اليوم تحت ستار صراع الحضارات لتقول إن العرب هؤلاء الذين يستوردون شماغهم ونعالهم ولباسهم واقلامهم وطعامهم من اوروبا وامريكا، ليس لديهم الآن حضارة لذا يجب على الاقوى ان يتصارع مع الاضعف ويغلبه ليأخذ بتروله وموارده الطبيعية وهذا هو منطق الحياة! وكما اطلقوا في السابق وبعد سقوط الدولة العثمانية على اسلوب استعمارهم لشعوب المنطقة التي كانت ترزح تحت نير الدولة العثمانية كلمة «الحماية» او الانتداب، وكما استطاعوا ان يقنعوا الكثير من العرب وغيرهم من الشعوب التي «اسموها عالما ثالثا» على أن الدول الكبرى سوف تساعدهم بحمايتهم هذه حتى يستطيعوا الوقوف على اقدامهم، يفعلون اليوم بمسمياتهم نفس الشيء فالعولمة وصراع الحضارات والقرية الكونية هي الاقنعة لتمرير مخططاتهم والتلاعب بمقدرات الشعوب الاخرى. وها نحن حتى اليوم لازلنا نعاني من حمايتهم التي تمنعنا من التصرف بالكثير من ثرواتنا الوطنية وتقف امريكا بكل قوتها ان امتدت يد احد قادة الدول هذه لتؤمم ثروتها النفطية مثلا، ولدينا تجربة بمصدق في ايران عندما امم النفط حيث دفع حياته ثمنا لذلك وعبدالكريم قاسم بالعراق كان تأميمه لنسبة تسعين بالمائة من الاراضي التابعة لشركات النفط الاجنبية في العراق، اهم اسباب قتله بل كان هو السبب المباشر لكنه بوجوه واقنعة واسباب خلقتها اليد الامريكية وجاءت بنظام آخر اعترف اليوم العديد ممن كان لهم دور بما كان بعلاقتهم بالمخابرات الامريكية وبأنهم «جاءوا بقطار امريكي»، وقد اعترفوا بهذه العبارة نصاً. ولماذا امريكي؟ حين نعرف الإجابة على سؤال يصرخ من واقع مررنا به بل من تاريخ قريب جدا، نستطيع أن نسمي الاشياء باسمائها الحقيقية كما نراها نحن لا ما يراها الامريكان. ولابد لنا من الاعتراف - مع الاسف - اننا اصحاب حضارات انكسرت وما عادت قبلة الدنيا كما كانت، ولابد لنا أن نرى جيدا ان كل ما عندنا اجنبيا، حتى عقولنا وكلماتنا، نفتخر بكل ما يأتي من خارج بلداننا بل نثق به اكثر من ثقتنا بعقولنا وصناعتنا، ففي مجال العلم او السياسة والادب والفن قد تردت احوالنا فأين هي علومنا ونحن نستورد كل شيء؟ وكم من سياسي - حتى وان كان معارضا - ليس بسياسي بل دكتاتور لا يعرف من السياسية سوى فرصة للسيطرة وتنفيس داء العظمة على الآخرين او فرص لتجميع الدولارات والقصور؟ وكم من مطرب لا يطرب بل يجد الفن فرصة للظهور والشهرة المؤدية إلى المال والوصول الى المآرب الدنيئة وفض الممنوعات؟ وكم من شاعر لا شعور ولا دراية له بفن الشعر وموسيقاه، يكتب وينشر ويطبل له بعض المداحين باسم الاعلام او باسم النقد ولا تستطيع ان نحفظ له بيتا من الشعر او حتى عنوانا لقصيدة او جملة مؤثرة لكننا - للاسف ايضا - نحفظ اسمه لكثرة ما يردده البعض الذين يريدون قصدا صناعته مثل صناعة سلعة او شيء ما للاكل، ولا يستحي البعض من الاعتراف بصناعة نجم فيردد الناس انه معروف، معروف، معروف، اصبح من الادب والفن الكثير الذي يمر علينا ولا يعلق في اذهاننا منه شيئا، حتى عدنا إلى القديم اذ هو اجمل وافضل واصح، وهذا اكبر دليل على ان حضارتنا الحالية لا وجود لها بل حضارتنا الماضية كانت تستحق ان تسمى حضارة، تلك الحضارة التي اهدت العالم ابجديته الاولى، اهدت العالم الجبر والفيزياء وسواه الكثير الكثير من العلوم والمعارف والحكمة والفلسفة، الحضارة التي انجبت ابن رشد وابن سينا والحسن بن الهيثم وعلمت العالم الارقام، فهل ننسى أن الارقام التي يستعملها العالم كله - الا نحن - هي ارقام عربية؟. تلك الحضارة التي نحفظها بعقولنا مهما طال الزمن، فمن منا لا يحفظ شيئا مما قاله الامام علي او ابو حنيفة او المتنبي؟ ومن منا لا تستهويه الموسيقى العربية القديمة او لا يطرب لام كلثوم؟ اما الآن ومنذ اكثر من عقدين من الزمان سرى في دمائنا الخدر الذي اراده لنا العدو بأكثر من اي وقت مضى، فسرى الينا الخطر الناتج عنه، ونحن مصرون على ان هذا الوضع «مودرن» وانه هو الصح وسواه الكلاسيكي او المتحفظ او العتيق او البالي او الذي اكل عليه الدهر وشرب. لابد لنا - ان اردنا البقاء والتغيير - من الاعتراف باخطائنا والتوقف عندها، وتفسير الاشياء بالعقل والمنطق قبل تقليدها، لنستحق ان نتأثر بحضارة سوانا كما تأثر سابقا بحضارتنا وبني عليها الكثير دون أن نسحق تحت الاقدام. ولابد لنا أن نحارب هذه التسميات الامريكية وأن لا نكون لسانا ناطقا لسياستها وادعاءاتها. (*)شاعرة وناشطة حقوقية عراقية مقيمة في لاهاي/ هولندا