لا أعلم كيف تتصارع الحضارات؟ أعلم ان الثيران تتصارع وأن الديوك تتصارع، وذلك انها لا عقل لها. فالصراع يعني غريزية وهمجية. اما الحضارات، وهي تعني عقول اجيال كاملة، وتجربة آلاف السنين، فهي قيم وأخلاق وأمان. ان المنطق والعقل يأبى ان يقبل القول بصراعها. الحضارات جهد ملايين تشعر انها عزلاء امام خطر الطبيعة او الفناء. فتتحد لتكون اللبنات الأولى لما نسميه حضارة. فيكون هناك سقف وحماية ومبادئ وأخلاق وكتاب وأمن. ويصبح هذا إرثاً لمن يأتي من اجيال، أو شعوب اخرى. فالحضارات كما شهد التاريخ، تتلاقح ويؤثر بعضها في بعض. والدليل على ذلك ان ليس هناك لغة لم تتأثر بلغات اخرى وتؤثر فيها. وعجبت عندما وجدت ان في اللغة الهولندية الف مفردة عربية، وأن كلمة يد التي نستعملها هي فارسية. اما ما كان من حروب وصراعات في التاريخ فسببه مصالح دول، ورغبة في السيطرة على دول اخرى، واستغلال ثرواتها واستعباد شعوبها، باسم الدين او بأي اسم آخر. والحرب شذوذ عن رغبة البشر الطبيعية والسوية في الحياة الهانئة. والأنبياء عندما يحاربون فلأنهم جاؤوا بأفكار من السماء، لذا تراهم يحارَبون من قبل الآخرين، او يحاربون الآخرين من اجل هذه الأفكار التي لم تنبع من التطور الحضاري ذاته، إنما كانت خارقة حدود المألوف من افكار. إذاً ما علاقة الحضارة بالصراع؟ ان اميركا التي أطلقت كلمة العولمة، وأطلقت تسمية القرية الكونية لضم العالم جميعاً تحت سيطرتها بعد انهيار الجبار الآخر الاتحاد السوفياتي الذي كان يقف بوجهها، ويعرقل خططها ورغبتها في الهيمنة على العالم، تأتي اليوم تحت ستار صراع الحضارات لتقول ان العرب هؤلاء الذين يستوردون حتى شماغهم ونعالهم ولباسهم وأقلامهم وطعامهم من أوروبا وأميركا، ليس لديهم الآن حضارة، لذا يجب على الأقوى ان يتصارع مع الأضعف، ويغلبه ليأخذ بتروله وموارده الطبيعية، ولتهيمن اميركا العظيمة على العالم. وهذا هو منطق الحياة! فهل هو هذا منطق الحياة فعلاً؟ العولمة وصراع الحضارات والقرية الكونية هي الأقنعة لتمر مخططاتهم، ويمر التلاعب بمقدرات الشعوب الأخرى. وها نحن حتى اليوم لا نزال نعاني من حمايتهم التي تمنعنا من التصرف بثرواتنا الوطنية. وتقف اميركا، بكل قوتها، اذا امتدت يد احد قادة الدول لتؤمم ثروته النفطية. ولدينا تجربة مصدق في ايران، فهو دفع حياته ثمناً لذلك. وعبدالكريم قاسم، كان تأمم اراضي الشركات الأجنبية بالعراق من اهم اسباب قتله، بل كان السبب المباشر. ولا بد لنا من الاعتراف بأن كل ما عندنا اجنبي، حتى افكارنا وكلماتنا. فنحن للأسف نفتخر بكل ما يأتي من خارج بلداننا، بل نثق به اكثر من ثقتنا بعقولنا وصناعتنا. ففي مجال العلم او السياسة، والأدب والفن، تردت احوالنا. فأين هي علومنا ونحن نستورد كل شيء؟ وكم من سياسي - حتى وإن كان معارضاً - لا يعرف من السياسة غير فرصة السيطرة، وتنفيس داء العظمة على الآخرين، او فرصة تجميع الدولارات والقصور؟ وكم من مطرب لا يطرب، بل يجد الفن فرصة للظهور والشهرة المؤدية الى المال والوصول الى المآرب والممنوعات؟ وكم من شاعر لا شعور ولا دراية له بفن الشعر وموسيقاه، يكتب وينشر ويطبل له بعض المداحين باسم الإعلام، او باسم النقد، ولا نحفظ له بيتاً من الشعر او عنواناً لقصيدة او جملة مؤثرة لكننا نحفظ اسمه لكثرة ما يردد؟ وهذا دليل الى ان حضارتنا الحالية لا وجود لها. هولندا - بلقيس حميد حسن شاعرة وناشطة حقوقية عراقية مقيمة