في غابات الأمازون كما في مجاهل آسيا وأفريقيا والرياض وجدة.. وطوكيو ونيويورك حركة انسانية دائبة.. وأعتقد أن مهمة الأدب هي «رصد» هذه الحركة ضمن إطارات محددة.. فنرى أمرأ القيس في معلقته الشهيرة يصف لنا جواده ومعاركه.. وكيف نحر ناقته ليطعم الصبايا.. وبشار بن برد «وهو بالمناسبة أعمى» حدثنا عن ربابة ربة البيت التي تصب الخل في الزيت.. وكلاهما اختار اطار الشعر.. ولكن ابن بطوطة تنقل بنا عن طريق القرطاس والقلم نثراً في دهاليز جغرافية المكان وعبر زمن التاريخ.. يرصد حركة ما هنا أو هناك.. وتتحكم في عملية الرصد جوانب فنية.. يعطي الالتزام بها أو الخروج عليها «قيمة» لعملية الرصد.. القيمة يسعى إليها الراصد.. ويعطيها بعدها الحقيقي المتابع لعملية الرصد.. وأنت عندما ترغب في مشاهدة مباراة في كرة القدم يجب أن يكون لديك إلمام بسيط بقواعدها.. ولكن الخبير هو وحده من يستطيع تمييز الهدف الملعوب بحرفنة.. والهدف الذي جاء بمحض الصدفة.. والعمل الأدبي لا يعترف بغير الأهداف الملعوبة بمهنية راقية.. ومستوى عال من الأداء.. عندما كنت طفلاً صغيراً كنت أشاهد بعض الأشخاص يحملون عدداً من الأقلام في جيوبهم.. ويلطخون ملابسهم عمداً بالحبر كبرهان على أنهم مثقفون.. وأرى المعايير قد انقلبت الآن وأصبح كل من ظهر اسمه على صفحات الصحف يطالب بنزع ميكروفونات المساجد.. أو عزل مدير احدى الإدارات لأنه لم ينجز له معاملة هو المثقف «...». من وجهة نظر خاصة أرى أن مفهوم الثقافة يعني الرصيد المعرفي المتراكم لشخص ما.. أو مجتمع ما.. ولكن الممارسة الفعلية للرصيد المعرفي وتطويعه أو تطويع الحركة الانسانية لتتناسب مع هذا الرصيد هو الذي يعطي الشخص/ المجتمع مكانه الحقيقي في سلم الحضارة.. وليس حجم الرصيد شرطاً بل المهم هو النوعية.. ولعلكم تلاحظون معي أن سعادة المذيع في احدى القنوات الفضائية قد يعطي شخصاً ما مبلغ مليون ريال لأنه أجاب عن سؤال: كم عدد الآيات في سورة النساء؟ أو كم عدد الأهداف التي سجلها اللاعب فلان؟.. المسابقات الصحفية لم تخرج عن مثل هذه الأسئلة.. ومثل هذه المعلومات لا تسمن ولا تغني.. ولكنها تساعد على التسطيح باسم الثقافة.. ومن العجيب أن نرى الدعم المالي يصرف بسخاء لتمويلها.. وكذلك تمويل حفلات الرقص والغناء في القنوات الفضائية.. على حساب الأنشطة الثقافية والأدبية الجادة. لا أتفق مع الأستاذ عبدالله بن بخيت على استنتاجه بأن هناك مؤامرة تحاك ضد الأدب.. وكل ما في الأمر أن الحركة تسارعت وتيرتها وتنوعت في أطرها.. كما يبدو ظاهراً.. وربما تلاحظون أن الخبر الواحد تتناقله معظم القنوات الفضائية بنفس تفاصيله المملة.. والتغير الوحيد الملاحظ هو جمال المذيعة ونوعية الملابس التي ترتديها.. ويا خبر اليوم بفلوس وبكرة بلاش: هل ينطبق هذا المثل على مقطوعة امرئ القيس وبشار بن برد أو ابن بطولة؟ ومن جهة أخرى نلاحظ أن من يستطيع رصداً للحركات الانسانية رصداً أدبياً مشغولاً بتأمين خبز عياله.. وكيف يسدد أجرة الشقة وفاتورة الجوال.. أما المتابع فلا يملك الوقت لتمييز الهدف الملعوب بحرفنة عن ذلك الذي يأتي بمحض الصدفة.. وعلى الله قصد السبيل.. عبدالرحيم بخاري e-mail:[email protected]