ما زالت خريطة الطريق تحظى بجدل واسع على الساحة الإسرائيلية خاصة في ظل الاهتمام الكبير بها رغبة منهم في الخروج من المأزق الذي يعيشون فية منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في سبتمبر من عام 2000 حتى الآن ومنذ طرح تلك الخريطة على المجتمع الدولي لم تكف الدراسات والأبحاث ووسائل الاعلام الاسرائيلية عن الحديث عنها سواء بصورة إيجابية أو سلبية. البروفيسور دافيد بر اهارون أستاذ العلوم السياسية في جامعة حيفا أشار في دراسة له بعنوان بوش ماذا فعل؟؟ واكد على فشل الأمريكيين في حل مشكلة السلام ويبدأ بشرح ما قام به الرئيس بوش مؤرخا لكافة الأحداث الهامة والمؤثرة بداية من تعيينة وتوليه مسؤولية الرئاسة في بلاده حيث لم تتقدم إدارة الرئيس بوش التي افتتحت ولايتها بأية مبادرة سياسية لمعالجة ملف الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، ولا تخرج خطة تينيت (13/6/2001) عن هذا السياق باعتبارها تبلورت كآلية أمنية لتقرير لجنة ميتشل إبريل 2001) في ضوء التدهور الحاد الذي طرأ على المناطق الفلسطينية بعد عملية مقهى الدلافين في تل أبيب (1/6/2001) وإعلان الرئيس عرفات (4/6/2001) وقف إطلاق النار، وحتى خطة تينيت نفسها، فإنها لم تأتِ على ذكر أهم ما صدر سياسياً منذ اندلاع الانتفاضة وبموافقة واشنطن: بيان شرم الشيخ الذي قدمه الرئيس السابق بيل كلينتون (17/10/2000) وتقرير لجنة ميتشل، إلا من زاوية التأكيد على الالتزام بالاتفاقيات الأمنية الواردة في هاتين الوثيقتين. وفي تلك الفترة حددت إدارة الرئيس بوش أنها لن تعاود سياسة الإدارة السابقة التي ذهبت بعيداً، وإلى درجة التورط، في التعاطي مع الملف الفلسطيني دون النجاح في التوصل إلى تسوية (محادثات كامب ديفيد في يوليو 2000، ما انعكس إضعافاً للدور الأمريكي ومساساً بمقام الرئاسة، لا سيما ان هذا الملف، المعروف بصعوباته وتعقيداته، وبانتمائه إلى موضوع الصراع العربي الإسرائيلي، ليس مدرجاً كأولوية ضاغطة على جدول أعمال هذه الإدارة، التي لم تكن قد حسمت بعد بنقطة البدء للشروع في تعزيز هيمنتها على المنطقة، وإن طرحت نفسها بشكل جدي، في ذلك الحين، مسألة العراق من مدخل امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، كإحدى الخيارات الأبرز. والتقى هذا الفهم لأولويات السياسة بمداها الاستراتيجي مع نظرة واشنطن إلى الانتفاضة على أنها أعمال عنف وإلى عمليات المقاومين على أنها أعمال إرهابية لتجعل من خطة تينيت الخطة المطلوبة لمعالجة الوضع في المناطق المحتلة باعتباره وضعاً أمنياً بحتاً. هذا الفهم الأمريكي للانتفاضة الذي يخرجها من سياقها السياسي المعترف به على أوسع نطاق دولياً باعتبارها ثورة شعبية وتجسيداً لمرحلة من مراحل القتال العنيفة للفلسطينيين وجعل الإدارة الأمريكية تنظر إلى الانتفاضة باعتبارها عائقاً أمام العودة إلى طاولة المفاوضات، وتشترط وقفها ان لم يكن اجتثاث جذورها من صفوف المجتمع الفلسطيني قبل الدعوة إلى استئناف العملية التفاوضية. وفي الوقت نفسه ميزّت الولاياتالمتحدة تمييزاً واضحاً ما بين الانتفاضة والسلطة الفلسطينية، وجمعت بين الصمت على عمليات إسرائيل ضد نشطاء الانتفاضة وقياداتها الميدانية وبين تحذير تل أبيب من خطورة المس برئيس السلطة الفلسطينية وبالرموز الرئيسية المساعدة له، وبأجهزة السلطة ومؤسساتها الأمنية والمدنية وبنيتها التحتية وبمناطق سيطرتها. وكل هذا على خلفية اعتبار السلطة الفلسطينية لاعباً رئيسياً في الحل التفاوضي (وقد يولّد غيابها، إذا ما جرى تدميرها وإلغاؤها على يد حكومة شارون تدمير المفاوضات وتفتح الباب أمام احتمالات وتطورات غير مدروسة وغير مسيطر عليها أميركياً. وتؤكد الدراسة ان حرص الولاياتالمتحدة على السلطة الفلسطينية رئاسة وأجهزة ومناطق سيطرة لا ينطلق فقط من اعتبارات الدور السياسي المفترض، بل والأهم في المدى المباشر، من دور أمني تضغط واشنطن في سبيل ان تلعبه السلطة في تطويق الانتفاضة ومحاربتها ووقفها ووضع الإجراءات الكفيلة دون اشتعال نارها مجدداً، أما الصيغة العملية لوقف الانتفاضة والمقاومة فتكون من خلال استعادة التعاون الأمني بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وهو الأساس الذي بنيت عليه خطة تينيت. وفي الوقت نفسه يتواصل الضغط الأمريكي على السلطة الفلسطينية لمحاصرتها الانتفاضة وإجهاضها عبر اعتقال كوادرها وقياداتها الرئيسية والزج بهم في السجون ونشر قوات الأمن والشرطة على خطوط التماس لمنع الاحتكاك مع قوات الاحتلال، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بوقف العمليات المسلحة على أنواعها ضد الجيش الإسرائيلي والمستوطنين وعملاء الاحتلال وتجريد الفصائل الفلسطينية من سلاحها، ووقف التحريض ضد الاحتلال؛ وصولاً إلى استئناف التعاون الأمني مع الجانب الإسرائيلي. ويرى بر اهارون انه من هذه الزاوية وجة جورج بوش نداءات إلى ياسر عرفات يطالبه فيها بالعمل على وقف العنف في مناطقه، ذلك ان واشنطن تدرك ان إجراءات الجيش الإسرائيلي في محاصرة المناطق الفلسطينية، وعملياته ضد نشطاء الانتفاضة لا تشكل حلاً كافياً لوضع حد للانتفاضة والقضاء عليها، وعليه تصبح السلطة الفلسطينية هي العامل الحاسم في وقف هذه الانتفاضة، وهذا ما يفسر حرص الإدارة الأمريكية على هذه السلطة وعلى عدم المس بها. على مستوى آخر يُلاحظ حرص الولاياتالمتحدة على الاستفراد بالقضية الفلسطينية، ورفضها أي تدخل للأمم المتحدة، ويقف خلف هذا الحرص إصرارها على إدارة العملية التفاوضية وفق أسس تتيح للطرف الإسرائيلي الأقوى فرض شروطه على الطرف الفلسطيني الأضعف خارج إطار الاعتراف المسبق بأي حق وطني فلسطيني، وخارج إطار اعتبار الوجود الإسرائيلي في الضفة والقطاع احتلالاً.. أما مرجعية المفاوضات فهي المفاوضات نفسها، وما يتوصل له المتفاوضون من حل يعتبر التطبيق العملي لقرارات الشرعية الدولية التي تحصرها واشنطن بدورها كراعٍ للعملية التفاوضية، ان أي دور للمجتمع الدولي في ظل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مزاحم للدور الأمريكي أو شريك له تعتبره واشنطن تطفلاً في جزء من العالم، تصنفه منطقة مغلقة لمصالحها الحيوية ونفوذها السياسي، ترفض ان يشاركها بها أي من الأطراف الدولية. ويوضح بر اهارون ان أحداث 11 سبتمبر غيرت الكثير في الموقف الأمريكي ففي أول مؤتمر صحفي رسمي يعقده في البيت الأبيض بعد هجمات 11/9 أكد الرئيس الأمريكي على الشيء نفسه، وكذلك في خطابه أمام الأممالمتحدة في 9/11/2001: «إننا نعمل من أجل ان يأتي يوم تعيش فيه دولتان هما إسرائيل وفلسطين معاً بسلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها، وفق ما دعت إليه قرارات مجلس الأمن». وأتى خطاب وزير الخارجية كولن باول في جامعة لويفيل (كنتاكي) في 19/11/2001، المسمى خطاب «الرؤية الأمريكية» ليؤكد ان الدولة الفلسطينية «تقع ضمن الرؤية الأمريكية»، محصلة هذا الخطاب إيجابية وإن ذهبت باتجاهات متناقضة: ويشير بر اهارون إلى ان السياسة الأمريكية سعت إلى تقديم نفسها بعد 12001/9/1 بشكل متوازن من خلال إبراز «الأفق السياسي» للتسوية بعد ان قطعت شوطاً في أحادية الانحياز إلى المسار الأمني، وتمايز موقفها عن خطاب شارون بعد «خطاب الرؤية» (19/11/2001) عندما عزمت الضغط عليه أثناء زيارته لواشنطن (1/12/2001) كي يستجيب لمطلب وقف إطلاق النار متخلياً عن شرط أسبوع التهدئة الذي تلا ذلك، والمفارقة هنا كما يري بر اهارون أنه بذريعة الرد على عمليتي حيفا والقدس، عاد شارون من واشنطن وفي جيبه الموافقة الأمريكية للعمل لمدة شهرين (بحسب طلبه) بأسلوبه العنيف المعروف ضد الانتفاضة. ولعل هذا هو المحك الذي أعاد السياسة الأمريكية إلى مسار الحل الأمني وأعادها إلى جوار السياسة الإسرائيلية، ولم يسعف القرار الفلسطيني بوقف إطلاق النار (16/12/2001) الذي طبق بحذافيره في دفع واشنطن إلى كبح التصعيد الإسرائيلي، بل تم تجاهل القرار الفلسطيني وتجاهل مغزاه بانضباط جميع الأجنحة له وبالمقابل تم تضخيم مغزى حادثة السفينة «كارين إي» لغرض واضح: ربط الانتفاضة بالإرهاب الدولي، وشهد الخطاب الأمريكي تقارباً ملحوظاً من الموقف الإسرائيلي بوضع المقاومة على سوية الإرهاب وفي هذا السياق إبراز مسؤولية السلطة ورئيسها عنها.. هذا ما يفسر تمخض مهمة زيني عن خطة تلتقي مع «خطة تينيت» في طابعها الأمني المحض، لكنها تقع دونها بالانحياز الكامل إلى الموقف الإسرائيلي، «خطة زيني» وضعت السلطة الفلسطينية أمام خيارين: دخول إسرائيل مناطقها بدون قتال، أو قمع الانتفاضة بسلاح السلطة، وهكذا مهدت ورقة زيني (27/3/2002)، بعد يومين (29/3/2002) من بلورتها الطريق لاندلاع حملة «السور الواقي». حملة «السور الواقي» أسقطت ثلاثة خطوط حمر مغطاة دولياً، والأهم أميركياً: عدم التعرض لرئيس السلطة، عدم المساس ببنى السلطة ومؤسساتها، وأهم هذه الخطوط: عدم السماح بعودة الاحتلال إلى المناطق (أ) التي كانت تحولت إلى قاعدة آمنة للانتفاضة، وهذا تحول كبير في سياسة الإدارة الأمريكية، له مقدمات حيث لمس منذ نهاية العام 2001 ارتفاع نبرتها في وصم المقاومة بالإرهاب في سياق إبراز مسؤولية رئيس السلطة عن هذه الأعمال. ويعبر خطاب الرئيس بوش في 5/4/2002، بعد مرور أسبوع على بدء عمليات «السور الواقي» عن هذا المنحى في السياسة الأمريكية، وباستثناء إشارة سريعة إلى «وقف نشاطات الاستيطان وإنهاء الاحتلال من خلال الانسحاب إلى حدود آمنة ومعترف بها (وليس إلى حدود 4 يونيو) انسجاماً مع قراري مجلس الأمن 242 و338»، وإشارة أخرى تستذكر إطار التسوية العادلة: دولتان، إسرائيل وفلسطين.. لكنها (أي التسوية) تتطلب قيادة وليس إرهاباً.. وفي 12002/6/0 أكد بوش لدى استقباله شارون ان «لا أحد يثق في الحكومة الفلسطينية الجديدة» التي تم تشكيلها بعد تعديلات وزارية، والأهم من هذا اعتبر بوش «ان الظروف لم تنضج بعد لعقد مؤتمر وزاري (حول الشرق الأوسط) من أجل إيجاد الشروط الضرورية للسلام» وفي هذا تراجع واضح عما سبق لوزير خارجيته إعلانه قبل ثلاثة أسابيع (2/5/2002) ان اللجنة الرباعية (الولاياتالمتحدة - روسيا - الاتحاد الأوروبي - الأممالمتحدة) قررت تنظيم مؤتمر وزاري حول النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني خلال صيف العام 2002.. وفي 12002/6/2 التقى الموقف الأمريكي مع موقف الحكومة الإسرائيلية عندما اعتبر باول في حوار مع صحيفة هاارتس ان الدولة الفلسطينية المزمع اقامتها سواء كانت «مؤقتة» أو «انتقالية» يجب ان تكون لها «هيكلية، ومؤسسات وما يشبه الأرض، حتى وإن لم يكن ذلك محدداً تماماً بصورة نهائية»، وواضح ان هذا الكلام يمهد لفكرة أساسية انبنى عليها خطاب الرئيس بوش الذي ألقي بعد أقل من أسبوعين، وبهذا يكون «خطاب الرؤية» الأمريكي دار دورة كاملة (استغرقت تسعة شهور) قبل ان يحط على رؤية شارون للتسوية القائمة على ترتيبات انتقالية طويلة المدى.. وعليه تكون الإدارة الأمريكية تبنت نقطتين رئيسيتين في رؤية شارون السياسية: 1 القبول بنظريته حول الحل الانتقالي وتأجيل الحل الدائم. 2 القبول «بفكرة» الدولة الفلسطينية دون الدخول بتفاصيلها، باعتبارها الإطار القانوني الذي يغلف الحل الانتقالي. ضمن هذه الأجواء وبعد شيوع الكلام عن توجه بوش لإطلاق «إعلانه الرئاسي»، لم يقدر أحد ان هذا الإعلان سينطوي على أية مبادرة فعلية تنظمها جداول زمنية، ولم يراهن أحد على احتمال ان يحمل هذا الإعلان أية إشارة إلى إمكانية الاقتراب من تحقيق «الرؤية» ودولة فلسطين، وفي هذا السياق أتى خطاب بوش في 22002/6/4 ليقدم بشكل مترابط تلك الأفكار التي وردت متفرقة وأحياناً متعاكسة على لسانه ولسان مسؤولين في إدارته في الأسابيع الأخيرة، وهذا الخطاب يقوم على ركنين: الدولة المؤقتة والإصلاح.. ويرى بر اهارون ان خطاب الرئيس بوش أخضع الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي لشروط الحرب الأمريكية على ما يسمى بالإرهاب بلغة إيديولوجية لا تملك نبرتها الحادة، على ارتفاعها، ان تموّه على حقيقة الاستراتيجية الأمريكية حيال القضية الفلسطينية (والصراع العربي الإسرائيلي عموماً)، هذه الاستراتيجية لا تضع التسوية المتوازنة في اهدافها ، بل تسعى إلى احتواء الصراع ضمن حدود النزاع مخفوض المستوى لتركيز الجهد والانصراف إلى الملفات المجزية والأهم. وبالتطبيق على الأوضاع الفلسطينية تنطلق هذه الاستراتيجية من 1 ان المشكلة الفلسطينية ليست محض محلية، بل ذات طبيعة إقليمية. 2 وتفترض ان تحقيق السلام متعذر الآن لصعوبة الملف وتعقيداته حيث لا إمكانية لتلبية الحقوق الفلسطينية بدولة مستقلة وعودة اللاجئين. 3-استخلاص ان الأولولية هي لاحتواء المشكلة حتى لا تترتب على عدم حلّها انعكاسات سلبية في المحيط تُخل بالاستقرار الإقليمي. 4- يصبح الحل العملي والمدخل إليه هو مجيء قيادة فلسطينية مطواعة تنسجم مع الوجهة المطروحة إسرائيلياً والمدعومة أميركياً.. هذا بالضبط ما رمى إليه الخطاب البرنامجي في 22002/6/4 الذي فتح على فصل جديد في سياسة الإدارة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، انطلق من فكرة الإصلاح مدخلاً لإحياء نهج الترتيبات الانتقالية بعنوان «الدولة المؤقتة»، لكن عوامل مؤثرة أخرى لم تسمح ببقاء الموضوع ضمن هذه الحدود. فتحت وطأة الإلحاح الأوروبي انفتح البحث على ما تسمي «خريطة الطريق» بمبادرة أوروبية ابتداء وسرعان ما اكتست هذه الخطة أكثر من صيغة، وبقيت حتى عشية الإعداد للعدوان على العراق موضع تجاذب بين جميع الأطراف المعنية بالتسوية بما فيها واشنطن وبروكسيل (الاتحاد الأوروبي)، في إطار اللجنة الرباعية وخارجها وهذا ما ينقلنا إلى تناول المجريات التي، بتفاعلها، تمخضت عن «خريطة الطريق».