أعاد الانتصار العسكري الأمريكي السهل في العراق وتصاعد الرؤية الطموحة للرئيس بوش بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية.. أعاد انتعاش موضوع قديم هو موضوع «عصر الإمبراطورية الأمريكية». وقد تحول الرئيس الأمريكي جورج بوش من رئيس يركز على الأمور الداخلية ويسخر من السياسات الخارجية للإدارة الأمريكية السابقة بسبب تدخلاتها المستمرة في النزاعات والقضايا الدولية ويطالب بدورمحدود للولايات المتحدةالأمريكية في العالم تحول إلى واحد من أكثر الرؤساء الأمريكيين ميلاً إلى التدخل في شئون العالم في تاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية. وقد دفعت أحاديث بوش الحماسية الأخيرة البعض إلى مقارنته بالرئيس الأمريكي الأسبق وودرو ويلسون الذي دعا قبل حوالي قرن من الزمان إلى جعل العالم مكاناً أفضل من خلال نشر القيم الأخلاقية. والحقيقة أن هذه المراجعة الجديدة لدورالولاياتالمتحدةالأمريكية في العالم جاءت نتيجة للتجربة التي خاضتها أمريكا مؤخراً في العراق وهي دولة إسلامية بعد حربها ضد أفغانستان المسلمة أيضا. رؤى متعارضة وهذه الرؤية الجديدة ظهرت من خلال الرؤى المتعارضة لوزارتي الخارجية والدفاع الأمريكيتين حول أفضل طريقة لاستخدام القوة الأمريكية التي لا تبارى حاليا. ولكن المصدر الرئيس لهذا التركيز الجديد على «عصر الإمبراطورية الأمريكية» هو الرئيس بوش نفسه الذي لعب ذات يوم في فريق كرة السلة لولاية تكساس والذي أصبح الآن مجاهدا عالميا لم ير العالم مثله كثيرين خلال القرن الماضي على الأقل. يقول ديمتري سيمس رئيس مركز نيكسون للدراسات السياسية في واشنطن أن اللحظة الراهنة من اللحظات الحاسمة بالنسبة لبلادنا ولدورها في العالم وقد رأها رئيس جاء إلى السلطة وهو يشكك كثيرا في سياسة أمريكا تجاه إعادة بناء الدول حول العالم والتدخل لحل مشكلاته. ويضيف أن الدفاع عن الحرية في أي مكان من العالم مبدأ أساسي لأمريكا ولكن الخلاف دائما يكون حول الوسيلة لتحقيق هذا الهدف. والحقيقة أن الجولة الأخيرة للرئيس بوش والتي شملت مساحة كبيرة من العالم تمثل مؤشراً واضحاً على هذا التحول الكبير في التوجهات السياسية الخارجية للإدارة الأمريكية الحالية. فقد بدأ بوش جولته بروسيا للمشاركة في احتفالات مدينة بطرسبرج بمرور 300 سنة على إنشائها ثم فرنسا في قلب أوروبا للمشاركة في اجتماع قادة مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى وبعدها مصر للمشاركة في القمة العربية الأمريكية في شرم الشيخ وأخيرا ميناء العقبة الأردني لحضور قمة ثلاثية تضمه مع رئيس الوزراء الفلسطيني محمود عباس ونظيره الإسرائيلي آرييل شارون. الرؤساء السابقون والحقيقة أن هذه المناطق التي زارها بوش خلال هذه الجولة فيها بصمات رؤساء أمريكيين سابقين. ففي أوروبا الغربية ومعها اليابان تظهر بصمات رؤساء مثل فرانكلين روزفلت الذي قاد الولاياتالمتحدة خلال الحرب العالمية الثانية وهاري ترومان الذي قادها في نهاية الحرب وما بعد الحرب حيث انطلقت أولى مشروعات أمريكا لإعادة بناء هذه الدول بعد الحرب ووضعها تحت المظلة الأمريكية. أما في روسيا وأوروبا الشرقية فقد وجد بوش بصمات جون كيندي ورونالد ريجان حيث نجح الرئيسان عبر سياسات طويلة المدى في وضع حد للامبراطورية السوفيتية وإسقاط سور برلين. ومع ذلك فإن أصعب محطات جولة بوش وأشدها مخاطرة كانت هي محطة العقبة الأردنية حيث وجد نفسه وجها لوجه أمام رئيس الوزراء الفلسطيني ورئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون وبينهما صراع يمتد لأكثر من خمسين عاما. ففي هذه المحطة وجد الرئيس بوش نفسه أمام صراع حمل الكثير من زهور النصر وكئوس الهزيمة للكثير من الرؤساء الأمريكيين. وتكمن جذور ودوافع التحول في موقف الرئيس بوش العالمي ورؤيته لسياسة التدخل الأمريكي في قضايا متشابكة في الوقت الذي تمارس فيه أمريكا هذا التحول ليس فقط في العراق ولكن في الشرق الأوسط ككل. كما أن قضايا الشرق الأوسط سوف تساعد في تحديد ما إذا كان حظ الرئيس بوش سيكون أفضل من حظ الرئيس الأسبق ويلسون برؤيته الغامضة للعالم عام 1916. وقد تجسد التحول في رؤية الرئيس بوش للدور الأمريكي في العالم عندما وقف على متن حاملة الطائرات الأمريكية إبراهام لنكولن الشهر الماضي ليقول: «إن الرجال والنساء من مختلف الثقافات يحتاجون إلى الحرية كما يحتاجون إلى الغذاء والماء والهواء». وهذه الكلمات تختلف تماما عن أحاديثه أثناء المعركة الانتخابية على الرئاسة الأمريكية عام 2000 عندما كان ينتقد سياسات إدارة الرئيس الديموقراطي بيل كلينتون واستخدام القوات الأمريكية في عمليات حفظ السلام وفرض النظام في الدول التي تعاني من حروب أهلية. وعندما نشاهد القوات الأمريكية منتشرة الآن في شوارع بغداد وغيرها من المدن العراقية بدعوى حفظ الأمن والنظام حتى يمكن للأطفال العراقيين الذهاب إلى مدارسهم نتذكر على الفور كلمات مستشارة الرئيس للأمن القومي كونداليزا رايس عندما كانت ضمن فريق الحملة الانتخابية للرئيس بوش عام 2000 حيث قالت في لقاء لها مع صحيفة نيويورك تايمز: «نحن لا نحتاج إلى نشر الفرقة الثانية المحمولةجوا حتى يصل الأطفال إلى دور الحضانة في إطار سخريتها من سياسة الإدارة الديموقراطية في ذلك الوقت للمشاركة في عمليات حفظ الأمن والنظام في العديد من الدول التي كانت تشهد حروبا أهلية طاحنة. أحداث سبتمبر وهناك اتفاق كبير على أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 الإرهابية شكلت دافعاً قوياً لهذا التحول في استراتيجية الرئيس بوش نحو المزيد من التدخل في شئون العالم. وقد منحت هذه الهجمات مسئولي الأمن القومي الأمريكي الفرصة لكي يتجهوا إلى استخدام أكبر للقوة. ويؤكد الخبراء أن الحديث عن نشر القيم الأمريكية مثل الديموقراطية والحرية الشخصية سوف يدفع بالتدخل الأمريكي إلى مجالات جديدة لم يكن قد بلغها في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون. كما أن هذه الهجمات دفعت المواطن الأمريكي العادي إلى التفكير بطريقة مختلفة. يقول توماس هنركسن خبير السياسة الخارجية في معهد هوفر بمدينة ستانفورد الأمريكية: إننا نقول الآن ان كل من الأمن الداخلي والأمن القومي امتزجا بصورة كبيرة. ولم يعد الأمريكيون قادرين على تحمل رفاهية تجاهل السياسة الخارجية كما اعتادوا دائماً. كما يؤكد الخبراء ان التحول في السياسة الخارجية نحو المزيد من التدخلات المثالية في شئون الآخرين له جذور عميقة في فكر الرئيس الأمريكي جورج بوش. وهذه الجذور تظهر منذ رحلة بوش القصيرة إلى إسرائيل عام 1998 عندما كان حاكما لولاية تكساس وحتى تعيين كل هؤلاء المحافظين الجدد في مختلف إدارات الحكومة الأمريكية. خاصة ما يتعلق منها بالسياسة الخارجية والأمن القومي ثم إعلان استراتيجية الأمن القومي الأمريكية في الخريف الماضي. وعن زيارة الرئيس بوش تلك إلى إسرائيل يقول الرجل لأصدقائه انها كانت تجربة غيرت حياته. أما فيما يتعلق باستراتيجية الأمن القومي التي أعلنها الرئيس بوش رسميا في سبتمبر الماضي فيجب أن نلاحظ فيها عنصرين أساسيين. العنصر الأول أنها تدعو إلى شن ضربات عسكرية وقائية ضد الدول التي تمثل تهديداً للولايات المتحدة بدلاً من الانتظار حتى تقوم هذه الدول بأي هجوم ضد أمريكا. والثاني هو التعهد بعدم السماح بظهور أي قوة جديدة يمكن أن تتحدى التفوق العسكري الأمريكي العالمي. كما أن هذه الاستراتيجية أكدت أيضا على أهمية دعم القيم الديموقراطية في العالم. فقد تحدثت عن الدور الأمريكي في «تشجيع المجتمعات الحرة والمفتوحة في مختلف القارات». وهذا هو جوهر الاستراتيجية التي جذبت المزيد من الانتباه بعد الحرب ضد العراق ليثور السؤال هل هذا يعني إقامة إمبراطورية أمريكية أم لا؟ يصر الرئيس بوش نفسه على أن رؤيته لا تتضمن أي شيئا تجاه إقامة إمبراطورية أمريكية. ويحاول وزير الخارجية الأمريكية كولن باول أن يقلل من تلك المخاوف المتعلقة بالرغبة الأمريكية في إقامة إمبراطورية فيقول ان الأرض التي تريد أمريكا السيطرة عليها هي تلك الأرض التي تحتاج إليها لكي تدفن موتاها. يساند باول سياسة خارجية أكثر تقليدية وتستند على المصالح المباشرة لأمريكا في مقابل السياسة الخارجية القائمة على الرؤية الإمبراطورية التي تساندها دوائر وزارة الدفاع الأمريكية. ويصر فيليب زيليكو أستاذ التاريخ في جامعة فيرجينا الذي شارك في صياغة استراتيجية الأمن القومي لإدارة الرئيس بوش.. يصر على الرئيس بوش عندما أعاد التفكير في منهج السياسة الخارجية أعاد تحديد على سبيل المثال «العلاقة بين المبادئ والقوة». ويقول زيليكو في مقال له بفصلية «المصالح القومية» في عدد الربيع الماضي أنه «يجب الحديث عن القوة الأمريكية والطرق المقبولة لاستخدامها. لذلك يجب أن نتوقف عن الحديث عن الامبراطورية لأنه لا يوجد ولن يوجد مثل هذه الامبراطورية». أما سيمس الذي ينشر مجلة «المصالح القومية» فيقول إنه بدلاً من الخوف من استخدام كلمة «إمبراطورية» علينا أن نقيم حواراً قومياً بشأن أي نوع من الامبراطوريات ستكون عليه أمريكا. ويضيف أنه في الوقت الذي يتفق فيه الأمريكيون مع الكلمات المتكبرة التي يرددها الرئيس بوش عن نشر الحريات والرخاء حول العالم فإنه يجب إجراء حوار أمين حول تكاليف ومصاعب تحقيق هذه الأهداف. وبدون مثل هذا الجدل والحوار فإن أمريكا يمكن أن تنزلق نحو سياسات إمبراطورية وبخاصة في ظل تصاعد نفوذ المحافظين الجدد أنصار مبدأ التدخل الأمريكي في العالم داخل البيت الأبيض. يقال إن تغيير نظام الحكم في العراق لم يكن من بين الأهداف الرئيسية لوزارة الخارجية الأمريكية التي يتولاها كولن باول لكنه كان هدفاً رئيسياً من أجلال انتصار في الحرب ضد الإرهاب وإجراء إصلاحات جذرية في الشرق الأوسط من وجهة نظر المحافظين الجدد الذين يسيطرون على هذه الإدارة أمثال نائب وزير الدفاع بول وولفويتز ووكيل وزارة الدفاع دوجلاس فيث وغيرهما. والحقيقة أن هذا يثير تساؤلات عديدة بشان من يدير السياسة الخارجية لأمريكا وإلى أي مدى يلتزم بوش بهذه السياسة «التدخلية» الجديدة. يقول روبرت رايت الاستاذ الزائر في جامعة بنسلفانيا الأمريكية إن الساخرين من إدارة بوش سوف يقولون إن هذه الكلمات المثالية التي يتحدث بها بوش عن القيم والحرية ليست أكثر من محاولة للتمويه وتغطية سياسات أكثر واقعية. ويضيف أن هذه الإدارة حاولت الحصول على العراق بثمن بخس حيث قامت بغزوه في الوقت الذي لا تمتلك فيه لا القوات ولا الوقت اللازم لإعادة بناء ما دمرته تلك الحرب في هذا البلد. وما يشير إليه ذلك بالنسبة لي هو أن وزارة الدفاع الأمريكية هي التي تدير السياسة الخارجية في واشنطن وليست وزارة الخارجية. وهناك تيار آخر يرى أن الرئيس بوش يحاول المضي على خطى الرئيس الأسبق رونالدريجان الذي انتصر في الحرب الباردة في الوقت الذي يحاول فيه بوش الانتصار في الحرب ضد الإرهاب. ولكي يحقق هذا الهدف عليه أن يعيد تشكيل منطقة الشرق الأوسط بأكملها. ومع ذلك يبدو أن بوش مازال مترددا عن الخوض بعمق في مشكلات الشرق الأوسط بسبب البرجماتية السياسية التي يتبناها. فبعد أكثر من عامين على وصوله للحكم بدأ أخيراً يتحرك بقوة على صعيد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. والحقيقة أن أمريكا ليست على أعتاب عصر الإمبراطورية أو على الأقل ليست الإمبراطوريةبمفهو مها التقليدي القديم. يقول روبرت رايت إن الإمبراطورية الأمريكية لن تكون على نمط النموذج التقليدي للإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغرب عنها الشمس ولكنها ستكون امبراطورية مستترة عن طريق التأثير والنفوذ غير المباشر على دول العالم. ورغم ذلك فما زال من غير الواضح كيفية تعامل الشعب الأمريكي مع الدور الجديد لبلاده في العالم وفقا لتلك الرؤية الإمبراطورية أيا كان شكلها. تقليديا وبسبب النزعة البرجماتية النفعية للشعب الأمريكي فإن هذا الشعب يشعر بالقلق بشأن التكلفة البشرية والمادية لمثل هذا الدور العالمي بغض النظر عن مدى نبل النوايا. ومع ذلك فالرأي العام في أمريكا حاليا لا يعارض المضي قدما في سبيل إقامة إمبراطوريته خاصة بعد الخسائر البسيطة نسبيا التي تعرضت لها أمريكا في حربي أفغانستانوالعراق. ولهذا فإن أغلبية الشعب الأمريكي وفقا لاستطلاع الرأي الذي أجراه «برنامج اتجاهات السياسة الدولية» بجامعة ميريلاند الأمريكية ترى أن ما حدث هو الشيء الصواب تماما. يقول رايت إنه ما دامت خسائر أمريكا قليلة وما دام الاقتصاد الأمريكي بخير فإن الشعب الأمريكي سوف يمنح الرئيس بوش تفويضاً بالمضي قدماً في تنفيذ استراتيجيته «التدخلية» في العالم. فالشعب الأمريكي يحب الأحاديث الحماسية المثيرة التي يخرج بها بوش عليهم كل يوم. (*) خدمة كريستيان ساينس مونيتور - خاص ب«الجزيرة»