ليس مصادفة أن يأخذ سمو ولي العهد طائرته إلى حيث يجب أن توصّل سموه على رأس وفد كبير من أصحاب السمو والمعالي وبعض الخبراء والمستشارين للمشاركة مع قادة العالم في الحوار وإبداء الرأي في قرارات يؤمن بأنها ونحن معه سوف تصون أمن العالم والمنطقة وتحمي الاستقرار وتساعد في تعزيز نمو الاقتصاد في مرحلة دقيقة وبالغة الأهمية وفي زمن تومض فيه الكثير من مؤشرات الأحداث في مختلف دول العالم إلى ضرورة استحضار مثل هذه القرارات والاتفاق على ضرورة تطبيقها دون تأخير أو إبطاء، سواء في مؤتمر إيفيان أو مؤتمر شرم الشيخ. وحين تُختار المملكة ممثلة في قامة كبيرة بحجم سمو الأمير عبدالله للاستماع إلى تشخيصه لهذا الذي أصاب العالم بالدوار، وبخاصة أن هناك إشارات تشير إلى مزيد من الحوادث الإرهابية المنتظر تواصلها للإبقاء على الإرهاب خنجراً في خاصرة الإنسان في العالم، فكأنما يريد هؤلاء القادة من دعوة سموه الاستماع إلى صوت العقل والإصغاء إلى الرأي العاقل من عبدالله بن عبدالعزيز، لأنه ليس من الحكمة في شيء أن تؤخذ القرارات الدولية الصعبة في غياب دور لدولة بأهمية المملكة العربية السعودية على مستوى الساحة الدولية. *** والذين قدر لهم أن يرافقوا سمو ولي العهد إلى قمة «إيفيان» وتمكنوا من مقابلة سموه في أكثر من مناسبة واستمعوا إلى حرارة حديثه وشمولية آرائه حول المستجدات في منطقتنا وفي العالم الجزيرة ضمن هؤلاء أدركوا كم من أدوار مهمة قامت وتقوم بها المملكة ولا تستطيع أن تتخلى عنها تضامناً مع قضايا أمتنا العربية من جهة وتعاونا مع المجتمع الدولي على ما يرسخ الأمن والاستقرار في العالم ويجنب دوله كل عمل إرهابي أو سلوك مشين من جهة أخرى. ومثلما أن المملكة بقادتها ورموزها دائمة الحضور مهيأة للتعاون مع كل عمل أو قرار يهيئ للعالم وللإنسانية المزيد من الأمن والسلام، فهي أيضاً صاحبة المبادرة والريادة في تبني المواقف ذات البعد الأخلاقي بما يمثله من صون للحريات واحترام لقيم الإنسان واستنهاض لكوامن الخير فيه دون إذلال أو إساءة أو تهميش لإنسانيته. *** وأمس كان سموه ضمن من دعوا لحضور مؤتمر الدول الصناعية الثمانية تثميناً لمواقف المملكة وتأكيداً على أهمية دورها ضمن الاهتمام الدولي المتكرر بأهميتها كدولة يُعتمد عليها لأخذ منظورها من القضايا التي أدرجت ضمن إطار جدول أعمال قمة إيفيان باعتبار المملكة دولة تمثل مصدر أمان في إرساء قواعد العدل والسلام ومحاربة الإرهاب على مستوى العالم. وليس من قبيل المشاعر العاطفية أن يتحدث مثلي عن بلده على النحو الذي أشارت إليه السطور السابقة، وإن كان هذا ليس فيه ما يعيب، غير أننا هنا بعيداً عن المشاعر العاطفية نلتقط ما نسمعه من آراء محايدة نرى فيها وجهات نظر من أشخاص يحللون مواقف الدول ومواقف قادتها على ضوء شواهد كثيرة تم رصدها من جانبهم بتجرد على فترات زمنية متباعدة، وعلى ضوء أحداث كانت بمثابة امتحان لجدية وقدرة هؤلاء القادة في التعامل الصحيح معها. *** لقد أكدت المملكة هذه المواقف الثابتة والراسخة وها هي تذكر العالم بها باستثمار تزامن انعقاد مؤتمر الدول الثمانية مع قرب انعقاد اجتماع شرم الشيخ مع التحضير لانعقاد اجتماع العقبة الذي لن تشارك فيه المملكة. وسواء أعلن هذا الموقف السعودي من تطورات الاقتصاد الدولي والنظام التجاري العالمي، أو جاء حديثاً عابراً عن دور المملكة في استقرار أسواق الطاقة العالمية، أو كانت وجهة نظرها من إيجابيات وسلبيات العولمة ودورها في دعم الدول النامية، وسواء كان تحديد المملكة لمواقفها من متطلبات التنمية المستدامة في العالم العربي، أو كان عن البناء المستقبلي في المملكة العربية السعودية بما في ذلك مكافحتها للارهاب. فإن المملكة لا تتعامل بوجهين، وليس عندها ما تخفيه، ولا تبقي من أوراقها شيئاً كي تخفيه تحت الطاولة، ذلك لأنها وهي تجاهر بمواقفها إنما تريد أن تكون رسالتها الى العالم ومن قبلُ إلى مواطنيها واضحة كل الوضوح ضمن قناعتها ورواسخها الثابتة، وبما يصون مصالحها ويحمي حقوق مواطنيها. *** والمملكة ضمن هذا التصور ترى أنه يقع على عاتق الدول الصناعية المتقدمة عبء تبديد مخاوف الدول النامية وشكواها تجاه عدالة النظام التجاري العالمي من خلال تبني قواعد عادلة للتجارة الدولية وتنفيذ التزامات اتفاقات أوروجواي وبذل الجهد اللازم وتوفير الإرادة السياسية لنجاح أجندة الدوحة للتنمية. ويضيف المطبوع السعودي الذي صدر بهذه المناسبة على أن الكثير من الدول النامية ما زال يعاني من أعباء الديون وتدني مستوى الإنتاجية وانخفاض مستويات النمو الاقتصادي، الأمر الذي يتطلب من الدول المتقدمة والمؤسسات المالية الدولية مساعدة هذه الدول في سعيها لتبني السياسات الاقتصادية الملائمة وتنفيذ الإصلاحات الكفيلة بدعم التنمية. والمملكة لا تكتفي بذلك وإنما تطالب بإزالة الحواجز الكمية وغير الكمية والضرائب والإعانات المحلية التمييزية لأن التنمية الدولية مصلحة مشتركة وانفتاح الأسواق شرط أساسي لاستمرار الرخاء وتنميته. *** ولا يمكن أن يغيب موقف المملكة من قضايا مهمة في فترة ينعقد فيها مثل هذا المؤتمر بحضور المملكة وبخاصة موقفها من منظمة التجارة العالمية، لهذا سارعت إلى الإعلان على أنه إيماناً من المملكة بأهمية منظمة التجارة العالمية فقد سعت إلى الانضمام لعضويتها وأنها قطعت شوطاً كبيراً في سبيل استكمال متطلبات هذا الانضمام وأنه لابد من تيسير الشروط ومنح الدول المرونات الكافية التي تتناسب وظروفها التنموية. ولأن المملكة دولة منتجة للطاقة، ولأنها بهذه الخصوصية يهمها استقرار السوق البترولية، فلابد من التذكير أيضاً بما تقوم به وما قامت به لتحقيق هذا الهدف، لهذا فقد جاء في الكتيب الذي صدر في هذه المناسبة ما يشير إلى أن المملكة قد بادرت إلى اقتراح لإنشاء أمانة عامة لمنتدى الطاقة الدولي يكون مقره في الرياض لتعزيز الحوار بين الدول المنتجة والمستهلكة بما يخدم استقرار الاقتصاد في العالم ونموه. *** ولا تكتفي المملكة وهي تتحدث عن البترول على تذكير زعماء الدول الصناعية بالجهد الكبير الذي أشرنا إليه، وأنما يأتي هذا الكتيب ليشير إلى مطالبة المملكة بأن يعامل البترول بصفته سلعة استراتيجية ناضبة ذات أهمية اقتصادية عالمية، بمعنى أن يُعامل معاملة تتناسب ومكانته، مشيراً هذا الموقف إلى أسف المملكة مما يلقاه البترول ومشتقاته من معاملة تمييزية بفرض ضرائب عالية كانت لها آثار سلبية على الطلب عليه مما حدّ من الاستثمار في تطوير وتحسين استخداماته. وهذه المواقف المعلنة في إيفيان حيث ينعقد المؤتمر لا تستثني ايضاح موقف المملكة من العولمة وهو موقف يقوم على عدم اقتصار العولمة على فتح الأسواق فقط بل يجب أن يشمل توسيع الفرص للجميع، انطلاقاً من أن مفهوم المملكة لهدف العولمة هو السعي لتحسين جودة الحياة والحد من الفقر ووضع حد للجهل ومعالجة المرض، وأن العولمة تعني المنافسة، والمنافسة تعني استنهاض الهمم ودفع الإرادة والمزاوجة والتآلف بين الأصالة والمعاصرة، والفهم الواعي المقتدر والاعتراف والانفتاح على الآخر. ولن تكون هناك فرصة مواتية أفضل من انعقاد هذا المؤتمر للمطالبة بفرص أفضل للمشاركة الإيجابية في العولمة، لهذا جاءت دعوة المملكة إلى العمل على تسهيل نقل التقنية للبلدان النامية ومساعدتها للاستفادة من ثورة المعلومات والاتصالات بمثابة إيصال صوت الدول النامية إلى هذا المؤتمر الهام. *** وحتى لا يغيب دور المملكة في دعم الدول النامية كمعلومة للزعماء المشاركين في هذا المؤتمر، فقد أشارت المطبوعة إلى مساهمتنا في تمويل جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول النامية بالرغم من أن المملكة دولة نامية وذات احتياجات مالية متزايدة، مشيرة إلى أن إجمالي ما قدمته المملكة خلال العقود الثلاثة الماضية من مساعدات وقروض بلغ نحو ستة وسبعين ملياراً وثلاثمائة مليون دولار، وأن تلك المساعدات مثلت ما نسبته حوالي 4% من المتوسط السنوي من إجمالي الناتج المحلي للمملكة في تلك السنوات، بما يتجاوز هدف المساعدة الإنمائية الرسمية المحددة من قبل الأممالمتحدة، فيما تراجعت الدول المتقدمة عن تنفيذ تعهدات التنمية التي قطعتها على نفسها بتخصيص ما نسبته 7 ،0% من دخلها القومي للمساعدات التنموية. *** وحول متطلبات التنمية المستدامة في العالم العربي، فقد جاء إعلان المملكة عن موقفها باشارة إلى مبادرتها التي تتمحور حول إطلاق عمل اقتصادي عربي مشترك يسهم في شد أزر الأمة العربية، وأن هذه المبادرة سوف يتم النظر فيها خلال مؤتمر القمة العربي القادم. والمملكة ترى - بل تطالب - لنجاح مثل هذه الجهود بضرورة إزالة بؤر التوتر من المنطقة وخاصة الصراع العربي الإسرائيلي وتلافي تبعات الحرب مع العراق وبناء العلاقات وفقا لأسس سليمة مستندة إلى المصالح المشتركة لأنه بدون السلام والاستقرار تتعثر جهود التنمية، ولهذا قدمت المملكة المبادرة العربية للسلام التي أقرت بالإجماع في مؤتمر بيروت. *** وبالنسبة للعراق الرازح تحت الاحتلال، ولأن مؤتمر إيفيان معني بمناقشة وضعه ضمن جدول أعماله، فإن المملكة في كتابها المشار إليه ترى أنه لابد من السعي لإخراجه من محنته الراهنة سريعاً ليعود عضواً فعالاً في المجتمع الدولي ووطناً مستقلاً مزدهراً ينعم شعبه بالرفاه والأمن والاستقرار ويعيش بسلام مع جيرانه. وترى المملكة في هذا الصدد أنه لا بد من تضافر الجهود من أجل معالجة القضية العراقية بكل جوانبها، وأن تتحمل الأممالمتحدة والدول الأعضاء في مجلس الأمن وبشكل خاص الولاياتالمتحدةالأمريكية والمملكة المتحدة مسؤولياتها تجاه معالجة ما يجري في العراق وحماية حقوقه وتراثه الثقافي وتمكينه من إدارة شؤون بلاده بنفسه وتولي مسؤولية استغلال موارد العراق وثرواته الطبيعية، وأن يكون للأمم المتحدة دور محوري يتعدى الشؤون الإنسانية ليشمل عملية إعادة الإعمار وتشكيل الحكومة الوطنية العراقية. *** ولأن المملكة أول من عانى من الإرهاب وما زال، فهي معنية بمحاربته ومقاومته أكثر من أي دولة أخرى، وهي حريصة على إيصال هذا الموقف إلى مؤتمر الدول الصناعية لأنه برأيها يشكل تهديداً لحياة الآمنين وللاستقرار العالمي وإعاقة لجهود التنمية، ويفصح الكتاب عن أن الإرهاب هو في الحقيقة أعمال لا أخلاقية تتنافى مع مبادئ وسماحة الإسلام وأحكام جميع الأديان السماوية وبالذات الدين الإسلامي. ويتمثل موقف المملكة من الإرهاب بالتأكيد على رفضها الشديد وإدانتها واستنكارها وشجبها للإرهاب بكافة أشكاله وأنها ضده وتتعاون بفاعلية مع الجهود الدولية المبذولة لمكافحته، وأن المملكة أبدت استعدادها للإسهام بفاعلية في إطار جهد دولي جماعي تحت مظلة الأممالمتحدة للتعريف بظاهرة الإرهاب بمختلف أشكاله دون انتقائية أو ازدواجية، ومعالجة أسبابه واجتثاث جذوره وتحقيق الاستقرار والأمن الدوليين. *** وترى المملكة أن الإرهاب لا وطن له ولا دين ولا جنسية وأن محاربته تتعدى قدرة بلد أو مجتمع بعينه وتتطلب تضافر جهود المجتمع الدولي كافة، والمملكة كانت من أوائل الدول التي صادقت على التوصيات الأربعين لفريق العمل المالي وذلك في عام 1999 وقد تم اعداد مشروع نظام غسل الأموال ومكافحة تمويل الإرهاب، ويتوقع صدوره قريباً، كما أن المملكة جمدت حسابات الأشخاص والكيانات الإرهابية، وأن التحويلات المالية تخضع لنظام متشدد إذ لا يسمح بالتحويلات إلا من خلال البنوك، ولا يسمح للجمعيات الخيرية بالعمل في المملكة إلا بترخيص بذلك، وتعمل المملكة على إعادة تنظيمها لإخضاعها لمزيد من الرقابة والمساءلة، وبالنسبة للجمعيات الخيرية السعودية في الخارج سوف يصدر تشريع بحصر التبرعات في جهة واحدة حتى لا يتسرب شيء منها إلى أنشطة أو جهات مشبوهة. *** وأُتيح للمجتمعين أن يطّلعوا على الخطوات الإصلاحية التي تمت أو في طريقها إلى التطبيق في المملكة، حيث يشير الموقف السعودي المعلن هنا في إيفيان إلى خطاب خادم الحرمين الشريفين في الدورة الحالية لمجلس الشورى الذي أشار إلى تعميق وتعزيز مبادئ العدل والمساواة بين كافة أفراد المجتمع وكفالة جميع الحقوق والحريات المشروعة ومكافحة أي مظهر من مظاهر التفرقة أو التمييز بما يتفق مع المبادئ والأسس التي تقوم عليها سياسة المملكة أولاً وروح العصر ومتطلباته ثانياً. *** وباختصار: فإن المملكة، وهي تشارك بالحضور لمؤتمر مهم كهذا المؤتمر ممثلة بسمو ولي العهد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، وتعلن بوضوح عن موقفها من كثير من القضايا المحلية والإقليمية والدولية بمثل ما أشرنا إليه، اعتماداً على ما صدر عن القيادة وبالاعتماد على ما نعايشه كأشخاص، ودون تجاهل لما يقال عنا من إيجابيات أو سلبيات، أقول إن المملكة قد اختارت الطريق الصحيح والتزمت بالمنهج المناسب الذي يجب أن يُعتمد عليه تفعيلا لإنجازات نجحت في تحقيقها وتأصيلا لبناء أشادته سواعد الرجال ضمن ثوابت الأمة وقناعاتها، وإن المملكة موعودة إن شاء الله بكثير من النجاحات بما يلبي رغبة المواطن ويستجيب لطموحاته، ضمن المنظور الواقعي والصحيح والمقدور عليه في هذا الاطار.