منَ غيرها تسكن القلب وتتربع على عرشه ان لم تكن الأم، والابنة.. الأحلام الجميلة التي تنبت زرع الحياة.. وتدر ضرع الأمنيات؟! دونها لا حي.. ولا حياة.. والشاعر بمشاعره أغنية حب يحرك أوتارها.. ويكتشف أسرارها.. ويستنطقها جملاً جميلة ترسم له خطة الأماني لو استطاع اليها سبيلا.. والعشماوي في ديوانه.. وكثيرة هي دواوينه أخذنا معه في رحلة شاعرية لا أدري لماذا جاءت رمادية ولا أقول سوداوية.. فالهلال بداية قمر.. والقمر بداية بدر.. والبدر وجه نهار في عتمة الليل..؟ لماذا طالبه بالمغيب؟! في مقطوعته أي محطته الأولى «غب يا قمر» هل انه اثر الركون إلى السبات؟ أم ان ضوء معشوقته تجلى ولم يعد لبادرة هلاله من مكان؟ أسئلة مطروحة سوف نتلمس الاجابة عليها من بين ثنايا كلماته الشاعرة. طفلة مشردة تخاطب هلال العيد.. هكذا أوحت لنا المقدمة.. انها شيء آخر لم أحسب له حساباً في مداخلتي: «غب يا هلال إني أخاف عليك من قهر الرجال قف من وراء الغيم لا تنشر ضياءك فوق اعناق التلال» لماذا كل هذا الرفض لميلاد بداية شهر حتى ولو جاء قاسياً مظلماً تلعنه أحلامنا.. أليس كونفشيوس حكيم الصين العظيم دلنا على ما هو خير بمقولته: «لا تلعنوا الظلام ولكن اوقدوا الشموع» لنرى في بداية ضوء الهلال شمعة تكفكف من مآقي تلك الطفلة المشردة ولو دمعة واحدة من دموعها المنسابة فوق خديها.. الحديث للطفلة في وقفة بائسة يائسة تخاطب الهلال القابع بين طيات ظلام ظالم: «أنا طفلة عربية فارقت أسرتنا الكريمة لي قصة دموية الأحداث باكية أليمة» وراحت تسرد عليه على بعد مأساة حياتها.. ضحية احتلال.. واختلال موازين عدل.. «منذ ولادتها رضعت ثدي الهزيمة..» والدها اقتادته أعداء الحياة.. والدتها حاصر جسدها جندي إسرائيلي متوحش.. اطلقت صرختها مستنجدة عروبتها.. عاجلها الجلاد بخنجره بعد ان سددت إلى قلبه طعنة قاتلة.. على وقع كل هذا كان ايقاع الأغاني العربية المملة يخترق الأسماع كأن شيئاً لم يكن.. أقول لها.. دعي الهلال في حاله يكبر أكثر بدرا فأنتِ واخوتك اطفال أبطال الحجارة الذين اصبحوا بدوراً وشموساً تضيء جوانب مستقبلنا بالأمل والحرية. «أنشودة القرية» مقطوعة شاعرنا العشماوي في ديوانه «يا ساكنة القلب»: «سلي الوادي، سلي ازهاره النشوى سلي العصفور حين يردد الشدوا سلي ان شئتِ كسرة خبزنا السوداء لذتها تفيض المن والسلوى» كانت أوصالها مقطعة آثرت جمعها ولملمة أطرافها.. لا أدري الحكمة في نثرها ان لم يكن ملء فراغات الصفحة.. لعلها بدوية اشتاقها.. هكذا يتحدث عنها سياق البيت: «سلي اغنامنا سالت بها طرقات وادينا تسير ونحن نتبعها.. وننضد من سعادتها أمانينا..» إلى أين أوصل هذا التوصيف المغرق في مفرداته؟!.. النهاية تكاد تكون معلومة ومحسومة.. الفراق الذي يعزف على أوتاره كل شاعر.. لأن قصيدة دون أشواق وفراق واغراق في بحر الدموع والشكوى لا طعم لها ولا لون ولا رائحة.. لماذا؟ لا أدري!! «رحلنا هكذا الدنيا رحيل ليس ينقطع فلا احلامنا جاءت، ولا آلامنا تدع تفرقنا أمانينا فنغدو خلفها نسعى وعند الله نجتمع» أليس في شرع البقاء لحظات لقاء يمكن انصافها والتغني بها ولو من باب المجاملة؟! ومن راعية الغنم الصغيرة إلى صغيرة شاعرنا شذا.. وقد راح يشدو لها.. في بوح أبوي لا يخلو من عظة: حدثها عن نفسه عن عالمه.. عن غيوم دنياه.. عن هموم فكره.. عن المطر الذي يقرع نوافذ البيت.. وتستحم به أشجار حديقته.. ثم التفت إليها يتأمل صورتها كما لو انه لم يرها بعد: «يا شذا.. وجهكِ، ما هذا بوجه هذه لوحة طهر، ونقاء» صورة يتطلع من خلالها الآباء لأطفالهم كما يقول المثل «سعيد في عين أمه زين».. وأيضاً سعيدة في عين والدها زينة. ان يعشق في صورتها وسريرتها براءة لم تنضج بعد.. ولم تعرف شكل الحياة ومقالبها وثعالبها ومتغيراتها.. «يا شذا لو تعلمين عالم اليوم غريق في محيطات الشقاء في الهوى، في غفوة الشهم، وصحو الادعياء عالم اليوم يد تلطم وجه الاتقياء» وراح يعدد أمامها مساوئ عصر يعيش فيه لعلها تعي على قدر وعظة.. رسالة وصية من أب لصغيرته اثمن من وصية ارث ترثه بعد ان يرحل.. لأنها وصية آمال لا وصية مال. ومن «شذا» إلى «عهود» التي جال داخل قلبها بمشاعر شعره لأنه لا يحتمل أكثر من ذلك لو انه اتسع: «هزي غصونك يا جذوع اللوز في وطني الحبيب فلربما صار البعيد لنا قريب ولربما غنت عصافير الصفاء وغرد القمري، وابتسم الكئيب» شحنة كثيفة من مفردات الخطاب الشعري يعمد إليه الشعراء ضمن دائرة متسعة تضيع معها أحياناً مضامين الفكرة وتتباعد أطرافها.. ولكن نتجاوزها لأنها صوت طفلة لطفلة.. والأطفال عادة يبوحون بكل ما في مخزونهم من كلمات: «أنا طفلة تدعى عهود أنا صرخة للجرح تلطم وجه من خان العهود» على نفس الوتر الوعظي تقوم خلود بدورها بدلاً عن أبيها تسترجع مع صديقتها ما كانت سمعته واختزنته في ذاكرتها.. نفس الدور ولكن بشكل أوسع مساحة.. لقد أشركت والدها في خطابها: «عفوا أبي الغالي أراك تشيح عني ناظريك وانا التي نثرت خطاها في دروب الشوق ساعية إليك ألبستنا ثوب الوقار ورفعت فوق رؤوسنا تاج الفخار» نِعم الحوار.. حوار الكبار للصغار.. وحوار امتحان الصغار للكبار.. تمضي الصغيرة في خطابها الشعري.. قائلة: «إني لأعجب حين اسمع من يقول هذا شهيد امانته بذل الحياة صيانة لكرامته اواه لو ابصرت زهو الدمع في أجفان غامد ورأيت يا ابتاه كيف يكون احساس الاماجد» قصة تطول فصولها.. لها خصوصية المولد.. وعمومية الفكرة.. كلنا مر بها بصورة أو أخرى وان اختلفت المواقع.. الواقع لا يختلف.. المحطة أمامنا لا ككل المحطات.. انها الاكبر.. عاصمة المحطات.. وام الديوان وعنوان «يا ساكنة القلب»: «بين عينيك قطوف دانية وغصون ترسم الظل على أطراف ثوب الرابية.. انت.. ما انت سوى الغيث الذي يغسل وجه الدالية أنتِ.. ما أنتِ سوى اللحن الذي يرسم ثغر القافية» نفس ما عودنا عليه شاعرنا العشماوي تكثيف في مفردات التوصيف يستغرق أطول مساحة من مسافة الفكرة يسلمنا احيانا إلى الاجهاد اللذيذ.. والجهد المضني.. ماذا بعد الكثير الكثير مما لم يذكر؟! «أنت يا ساكنة القلب لماذا تهجرين؟ ولماذا تسكتين؟ ولماذا تغمدين السيف في القلب الذي تمتلكين» عشرات الأسئة تدور في فلكها.. قبل ان نعرف الأسباب.. ونتعرف على الجواب.. يبدو انها ردت على تساؤلاته الكثيرة والمثيرة.. باقتضاب.. هكذا لخصت الجواب ولكن من فمه هو لا من فمها.. والعهدة على الراوي: «تقولين لماذا اكتب الشعر؟ وعمن؟ ولمن؟» يرد عليها هذه المرة بإيجاز غير مخل: «أكتب الشعر لعصر هجر الخير.. وللشر احتضن اكتب الشعر لعصر كره العدل.. وبالظلم افتتن اكتب الشعر لأن الشعر من قلبي.. وقلبي فيه حب وشجن» حكاية حب من نوع آخر.. عيونه بحور شعر.. وشفاهه كلمات شعر.. ولسانه قلم ومداد شاعر.. اما شخوصه فهم وطن واناس.. صغارهم كبار.. في احلامهم.. وكبارهم عشاق في صومعة اقلامهم.. أما الباقون فإنهم لا يقرأون الشعر.. ولا يستسيغون الشعر لأنهم الغاوون.. «عندما توغل الأشواق» محطة على درب الكلمة الشاعرة لشاعرنا العشماوي الذي اجهدنا بتكثيف مرادفاته اللفظية رغم جمالها ودلالاتها الوصفية.. لابد وان أشواقه اقتحمت دواخله وسكنت فيها: «عندما مسحت الشمس بقايا النوم عن أحضانها وشدا الفجر بأنغام الضياء وتناغى صوت عصفور.. وصوت الساقية وسرى في اذن الوادي نداء الراعية» ماذا بعد عندما؟ لقد اتخمنا أسئلة.. لنقترب من الصورة لعل ملامح الشكوى تستبين لنا حتى ولو كانت على أعصابنا: «عندما نقرأ في وجه الطريق الرحب آثار القطيع وأمام الدار طفل ينكث الأرض وفي الداخل أصوات رضيع وعلى بوابة المسجد شيخ مد رجليه إلى الشمس. وأرحى حاجبيه يذكر الله فترنو نظرات الافق الرحب اليه عندها اوغلت الأشواق في قلبي وصار الحب يجري في دمي عندها أصبح احساسي نشيدا في فمي عندها ردد قلبي في حنين آه.. ما أجمل هذا الكون».. ونحن جميعاً بدورنا معك نردد ما أجمل هذا الكون الافلاطوني الفاضل لو انه تحقق.. وما هو بمتحقق لسبب بسيط ان الحياة مزيج من خير وشر.. من سعادة وشقاء.. من قوي وضعيف.. هكذا الاقدار ونحن في مدارها ندور في مرحلة اختبار.. لا مرحلة اختيار.. حتى الآن في هذه الرحلة مع الشاعر العشماوي لا أملك حرية الاختيار.. هو نفسه اختار قصائد ديوانه وشخوصها وحددها.. وعلي الا أحيد عن خط رسمه داخل ساكنات قلبه فهن كثر.. وليست واحدة كما أوحى بذلك عنوان ديوانه: العشماوي الشاعر التفت جنوبا وهو يردد: لابد من صنعا وان طال السفر لابد من قراءة وجه تلك اليمنية اللطيفة لطيفة: «الليل يحتضن الربى والصمت ينسج من خيوط الوهم حولي مثل بيت العنكبوت وانا ألفُّ ردائي اليمني أبحث فيه عن دفء المبيت» كل هذا وصغيرتي تختال في أفقها البعيد على بساط من حرير.. لم يغفل عن متابعتها.. ان يسير نحوها بخطى مشوقة تكبو تارة.. وتنهض أخرى.. أما صوته الواعد فإنه يتسلل إلى اذن الفضاء مرجعاً.. متوجعاً: «مهلاً يا لطيفة» ولطيفة التي لم يكشف لنا عن سرها ترمي إليه بنظرة نافذة تصيب قلبه بالحذر: ايقظت لديه عقال البوح: «ابنيتي.. ما كنت اعهد فيك هذي الكبرياء من اين يا محبوبتي هذا الجناح؟! وكيف طرتِ إلى السماء؟» ما إن اسمعها كلماته حتى سفهته.. اختفت في الأفق البعيد وخلفت له حسرة ما بعدها حسرة: شاعرنا كشف الستار عن لطيفة بعد ان اختلطت لدي الصور. أهي يمانية أحبها.. أم انها فلذة كبده التي أوجعه فراقها وراح يبثها شجنه وحزنه.. لطيفة كانت ابنته التي رحلت في سفر بعيد بعيد لا أعرف مداه.. ما ادريه انه سفر موحش لم يلق والد لطيفة من السلوى غير اجترار ذكرياته يذكرها ان كانت تسمع: «ابنيتي.. هذا ابوكِ يلوك غربته. ويبكي عشق المتاعب يا لطيفة كي يصد الفقر عنكِ وظللت اعزف في خيالاتي اقطع ليلتي.. وسألت عنكِ ولا مجيب» عجيب الا ترد عليه.. واعجب ان يخاطبها إذا كانت لا تملك الرد عليه.. لن نستبق النهاية.. وانما ننتظرها على أحر من الشوك.. لا من الشوق هذه المرة.. فالملامح لا توحي بالفرح.. شاعرنا.. تغالبه هواجسه ووساوسه.. الخوف يأخذ منه كل مأخذ.. شعر بطيفها يرمقه بعيون دامعة: «ما كنت أعلم انه يوحي بقرب الفاجعة ابنيتي. قالوا: «تركتِ لنا الحياة» قالوا: «صنعت من الثرى مسكا وصغت من البكاء لهم قصيدة وغدوتِ يا لهف الفؤاد عليك طفلتنا الشهيدة» ولأنه لا يكاد يصدق رحيلها تشبث ببقايا من بقاياها يذكرها به.. ويذكر نفسه بها لعل في ذلك القليل القليل من العزاء: «قولي لهم: «انا ها هنا لمَ تكذبون على أبي قولي لهم: هذي هنا لعبي. وهذا ملعبي».. رغم خبر رحيلها لم يصدق.. يغالبه الأمل في لقيا لا تأتي.. إلا ان صدى غامضاً من صوتها البعيد البعيد افرغ في محصلته الحقيقة: «ويجيء، صوتك يا لطيفة وتهزني في مقلتيك رؤى مخيفة احسست حين سمعت صوتك ان غربتنا طويلة وعلمت ان الموت حق.. ما لنا في الكون حيلة» لعل قراءتنا في وجه لطيفة اليمنية كانت الأجمل والألطف من بين جميع قصائد الديوان بما أوحت من جماليات السرد الشعري.. والحبكة الشعورية.. والنهاية بصراعها بين ما يرغب وما يرهب.. أخيراً.. أمامنا محطة أخيرة اختلطت في داخلها وجه ابتسامة.. وخارطة ألم أيهما ينتصر في النهاية؟! «الليل يغلق باب قريتنا ويطرد من وراء التل آثار النهار الليل. هذا المارد الجبار يقتحم الديار» أي ليل يعني؟ أهو الليل الذي يغشينا كل يوم؟ أم انه ليل مجازي نشعر به طيلة ساعات الليل والنهار؟ «لو درى قومي بمعنى الليل في زمن الحصار لو ادركوا معناه حين يزور قريتنا الجريحة بعض قصف وانفجار لو ادركوا معناه حين أتى وكف الموت ترسم بالدماء على بساط الأرض خارطة رهيبة لما تحولت الدماء بحيرة.. وتضوعت بالمسك قريتنا الحزينة» انه ليل شارون ومن يقف وراء شارون باسم السلام الكاذب ولكنهم لا يسمعون ولا يعون ولا يرعوون..وبعد.. بين رحلة أشواك مرة.. وبين رحلة أشواق اكثر مرارة.. بين رحلة حياة تغرقها احلام حالمة ملفعة بالبلوى ورحلة موت مفجعة مسكونة بالشكوى أخذنا شاعرنا العشماوي في رحلة شعرية داخل صومعة الفكر طاف بنا في أعماق نفسه لنستشرف معه معاني الرحلة.. ومعاناتها.. وإلى لقاء متجدد نطرح من خلاله ما يستجد على الساحة من عطاء شعري وفق رؤية اجتهادية تعرض ولا تفرض. الرياض: ص.ب 321185 الرمز 11321