قبل يومين قال «جاك شيراك» موجها كلامه إلى الأمريكيين: أمريكا صديقة لكل الفرنسيين.. قبل ذلك قال الرئيس لقناة «البي بي سي» البريطانية: لا يمكننا المضي في كلام سخيف عن «الخلافات» الفرانكو بريطانية لأن ما يجمعنا نحن والبريطانيين لهو نفس المصير الأوروبي..رئيس الحكومة البريطانية قال موجها كلامه إلى جاك شيراك: الفرنسيون أصدقاء نحترمهم دائما، ونقدر مواقفهم السابقة دفاعا عن العدالة الإنسانية في العالم.. لم يقصد بالتأكيد الموقف الفرنسي إزاء الحرب على العراق كان يقصد فقط «المواقف السابقة» التي تفتح الباب على كل الاحتمالات.. هذا الذي يجب أن نركز عليه اليوم بالذات. ربما لأننا كشعوب نشعر بالخيانة لمبادئنا، بشكل ما. الفرنسيون الذين قرروا ذات يوم الوقوف في وجه التيار الأمريكي الجارف. قالوا «لا » وهم يعلمون أنهم سيدفعون الثمن، الأمريكيون لا ينسون الإساءة «قالت» غونداليزا رايس موجهة الرسالة إلى «أوروبا القديمة» .. لكن.. بهذه السرعة؟ بعد تسع عشرة يوما من الحرب تجد فرنسا نفسها أمام سياسة معاكسة.. الاليزيه لم يعد يشعر ب«الخيبة» من جراء الدماء التي تسيل في العراق.. الناطقة الرسمية باسمه تتكلم عن «عالم جديد» دون أن تفصح عن خاصية ذلك العالم الجديد. في ألمانيا «شرودر» يبدو أكثر «عقلانية» على حد تعبير «كولن باول».. الحكمة الألمانية اكتشفت أن السير ضد الأمريكيين لا يبني مستقبل الألمان. الأزمة الألمانية الداخلية تحولت في الأيام الماضية إلى شبه ثورة طلابية على الوضع العام في البلاد..المنظومة التربوية الألمانية على المحك، ثمة بديل لها.. النمط الأمريكي الذي يبدو مغريا بإمكانياته الحيوية، ماذا يفيد الألمان في وقوفهم ضد أمريكا؟ أحزاب المعارضة طرحت هذا السؤال في نفس التوقيت تقريبا الذي طرحت فيه أحزاب اليسار الفرنسي نفس التساؤل: ماذا يفيد فرنسا من وقوفها ضد الأمريكيين بهذاالشكل؟ العراق ليست دولة أوروبية ولا غربية و أمام المصالح يجب تحديد أهمية تصنيف الدول..! يقول: «هنري دولامير» من الحزب اليساري الفرنسي ..أما عن الجوانب الإنسانية والحقوق المدنية فهذا لا يصلح إلا للضحك على الذقون! ما جرى حقا أن فرنسا تراجعت عن موقفها إزاء الحرب على العراق. فعلت ذلك بشكل رسمي وفي رسائل سياسية مررها قصر الاليزيه تحت السطور إلى البيت الأبيض. المصالح الفرنسية أهم بكثير من المبادئ الإنسانية. وفرنسا فعلت كل ما بوسعها لمنع الحرب، هددت بالفيتو، شنت حربا إعلامية على الحرب، «فرنسا فعلت كل ما بوسعها»، يقول بعض الدبلوماسيين الفرنسيين، لكن هل حقا فعلت فرنسا كل ما بوسعها؟. الموقف ليس حالة عارضة، لهذا إن كان موقفا عادلا وإنسانيا فيجب أن يستمر. ما يبدو مخيبا للآمال أن ثمة أحزاباً فرنسية متطرفة تواصل رفضها للحرب في الوقت الذي تتخلى فيه الأحزاب المعتدلة عن موقفها، نعني الجبهة الوطنية الفرنسية «f.n» بقيادة «لوبان» وهو كما نعرف جميعا من أكثر الأحزاب السياسية راديكالية وتطرفا. والذي كاد يهدد مستقبل فرنسا بوصوله إلى الدور الثاني المصيري منافسا جاك شيراك نفسه. الآن يعتبر الحزب الوطني العراق قضية مهمة ليس لأن جون ماري لوبان يريد الدفاع عن دم العراقيين، بل لأنه يعرف أنها الأجواء المناسبة لإحراج الحكومة الفرنسية والرئيس على حد سواء، نسبة الرافضين للحرب ما تزال مرتفعة في المجتمع الفرنسي وبالتالي الإعلان الرسمي من «جاك شيراك» أنه يساندالسياسة الأمريكية يعني الشرخ الحقيقي بينه وبين 77% من الفرنسيين، ويعني أن الجبهة الوطنية سوف تسد ذلك الشرخ ! دعونا نستعيد أنفاسنا من جديد لنقوم بعملية حسابية سياسية: جاك شيراك يغير موقفه نتيجة الإغراء البريطاني ومقابل الضغط الأمريكي على روسيا اضافة إلى الموقف الألماني الذي لان كثيرا في المدة الأخيرة لصالح الأمريكيين والهدنة السياسية والإعلامية بين باريس ولندن علاوة على اقتراب ايام النظام العراقي ودنو مرحلة الإعمار الجديدة التي يجب أن تستقطب الكثير من الدول عدا البترول الذي سوف تفوز به أمريكا لأنها هي التي شنت الحرب وخسرت فيها جنودها وسمعتها واحترام العالم لها! أليس هذا العالم عالم ديجيتال؟!.