في الأسابيع الثلاثة الماضية أوردت - في ثلاث حلقات - قراءتي السريعة لكتاب حق التضحية بالآخر: أمريكا والإبادات الجماعية، الذي ألَّفه الأستاذ منير العكش وأصدرته دار الريس بلندن في شهر يوليو من العام الماضي. والكتاب - كما رأى من تابع تلك الحلقات - مركَّز على جرائم الأوروبيين؛ وبخاصة الأنجلو سكسون، ضد سكان أمريكا الأصليين، الذين سُمّوا بالهنود الحمر، لكنه يقارن، أحياناً، بين تلك الجرائم القديمة وجرائم الحكومات الأمريكية الحديثة والمعاصرة. ومن ذلك ما ذكره عن كتاب رمزي كلارك، وزير العدل الأمريكي السابق، الذي ترجمة عنوانه: النار هذه المرة: جرائم الحرب الأمريكية في الخليج. وكنت عازماً على إيراد قراءتي لكتاب مشابه لكتاب الأستاذ العكش في بعض جوانبه، ومتمم له في جوانب أخرى، وهو كتاب قال مؤلفه الكريم في مستهل الفصل الثاني منه: «المهاجرون الأوائل (يعني) أولئك الذين أتوا من أوروبا إلى أمريكا» أعطوا أولادهم أسماء عبرانية؛ مثل إبراهام، وسارة، وألعازر، وأطلقوا على مستوطناتهم أسماء عبرانية؛ مثل حبرون، وسالم وكنعان، وفرضوا تعليم اللغة العبرية في مدارسهم وجامعاتهم حتى إن أول دكتوراه عُملت في جامعة هارفرد، عام 1642م كانت بعنوان العبرية هي اللغة الأم، وأول كتاب صدر في أمريكا كان سفر المزامير، وأول مجلة كانت مجلة اليهودي. على أن رؤية الجرائم الفظيعة المرتكبة ضد وطن عزيز على أمة العرب والمسلمين، ومواقف البعض منها، تدفعانني إلى كتابة أكثر التصاقاً بما يجري. وكنت قد نشرت مقالة عنوانها: «بين الأمس واليوم» قارنت فيها بين العدوان الثلاثي: الصهيوني - البريطاني - الفرنسي على مصر عام 1956م والعدوان المتوقع ارتكابه ضد العراق بزعامة أمريكا ومتبوعتها بريطانيا، وكان مما قلته في تلك المقالة: إذا كانت بريطانيا تمثِّل القاسم المشترك في العدوانين المتحدَّث عنهما على العرب فإن هناك مفارقات فرضتها المتغيرات، كانت أمريكا ضد العدوان الثلاثي على مصر لظروف سبق أن أشرت إليها في مقالة من المقالات. وهي الآن زعيمة العدوان المتوقع على العراق. على أن هذا العدوان سيقع وافق مجلس الأمن أو لم يوافق. ذلك أن المراد منه حقيقة ليس ما يقال عن نزع أسلحة دمار شامل - وهو الأمر الذي لا ينفَّذ إلا إذا كان لدى دولة عربية ضمان لبقاء الكيان الصهيوني الجهة الوحيدة التي تمتلكه في المنطقة - بل ولا الاطاحة بحكومة بلد مستقل عضو في الأممالمتحدة فحسب، إذ إن تاريخ أمريكا مليء بالشواهد الدالة على مؤامراتها للإطاحة بحكومات في مناطق متعددة من العالم، بعضها كان منتخباً انتخاباً حراً نزيهاً. وكانت تلك المقالة قبل شهور من حدوث العدوان على العراق، أما وقد حدث فقد اتضحت المواقف، وسقطت أوراق التوت عن عورات بعض من كانوا حريصين على عدم سقوطها. وفي هذه المقالة تدفعني قراءة التاريخ مرة أخرى إلى المقارنة بين ما حدث بالأمس وما يحدث اليوم، بين ما وقع خلال الحرب العالمية الأولى في العقد الثاني من القرن الماضي وما يقع اليوم ونحن في السنوات الأولى من القرن الحاضر. في الحرب العالمية الأولى أغرت بريطانيا، التي كانت مهيمنة على مصر ومناطق شرقي الجزيرة العربية وجنوبها، بعض قادة العرب على الوقوف معها ضد الدولة العثمانية، ووعدت من وعدت بأن هذا الوقوف سيؤدي إلى تحرير العرب من السيطرة التركية واستقلالهم. واغدقت ما أغدقت من أموال على هؤلاء الذين انخدعوا بوعودها، فأبدوا من الشجاعة ما أبدوا تحت رايتها حتى تم إخراج الأتراك من الحجاز والمشرق العربي - بما فيه فلسطين - فماذا كانت النتيجة؟. بينما كانت بريطانيا تعطي تلك الوعود كانت اتفاقياتها السرية مع فرنسا تتم على اقتسام البلاد العربية التي تنتزع من الدولة العثمانية. وكان وعدها للصهاينة بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، وإذا كان معروفاً ما حدث في العراق والأردن وسوريا ولبنان فإن أكبر نكبة للثقة بوعود أعداء العرب والمسلمين أن الصهاينة أقاموا لهم دولة في فلسطين لا تهدِّد بتهويد هذا الجزء من العالم العربي الإسلامي فحسب، بل تهدِّد جميع المنطقة العربية بأشكال مختلفة. ولقد كان الحكم العثماني في أواخر أيامه، وبخاصة بعد انتهاج القادة الأتراك سياسة تتريك الشعوب الأخرى، حكماً سيئاً ظالماً بدرجة واضحة كل الوضوح. وقد بلغ الاستياء من تلك السياسة درجة الغليان، لكن من المستائين من حكَّموا عقولهم، فمنعهم إدراكهم الصحيح للأمور من وضع أيديهم بأيدي المستعمر الأوروبي ضد سلطة إسلامية مهما كانت سيئة ظالمة، وكان من هؤلاء العقلاء عزيز المصري، رحمه الله. وماذا عن الأمور اليوم؟ كما وعدت بريطانيا بعض قادة العرب بأن إخراج الأتراك من الأقطار العربية سيؤدي إلى حرية العرب واستقلالهم أعلنت أمريكا مع متبوعتها بريطانيا، أن الهدف إزالة الحكم في العراق؛ وذلك لتحرير أهله من جوره ومن هنا سمَّت العدوان عليه: «عملية الحرية للعراق» فما هي مواقف القوى المحيطة بهذا القطر المعتدى عليه؟ كنت قد نشرت أربع حلقات عنوانها: «مواقف من حرب العدوان على العراق»، غير أن هذه المقالة بالذات تُعنى بالمقارنة بين ما حدث خلال الحرب العالمية الأولى وما يحدث الآن. لا أعتقد أن القيادات داخل العراق وخارجه تجهل أهداف العدوان الحقيقية عليه، ذلك أن المتابع العادي يعرف هذه الأهداف بخطوطها العريضة، بل إن أعمدة المخططين والمنفذين للعدوان أعلنوا أنهم سيحتلون العراق وجدت أسلحة دمار شامل فيه أو لم توجد، وأطيح بحكومته أو لم يطح بها، كما أعلنوا أن احتلالهم لهذا القطر سيكون بداية لتغيير شامل لأوضاع المنطقة وفق ما تريده الإدارة الأمريكية وتقتضيه مصالحها، ومن المعلوم أن ما تريده هذه الإدارة لا يمكن إلا أن يكون لمصلحة الكيان الصهيوني. إذاً ما المواقف؟ كأن التاريخ يعيد نفسه في بعض الجوانب، هناك وعود من لا يشك في أنهم يتصرفون وفي أذهانهم تحتل خدمة الصهاينة ما تحتل من مكانة إضافة إلى مصالحهم الوطنية التي يمليها مزيج من عداءٍ واضح للعرب والمسلمين ونهم لاستغلال ثرواتهم. وهناك مواقف لبعض القيادات من داخل العراق وخارجه واضح كل الوضوح أن المحدِّد الأول لها ما دفع إليها من أموال تماماً كما حدث خلال الحرب العالمية الأولى من قيادات عربية، وهناك أناس عقلاء تحاشوا أن يضعوا أيديهم مع أيدي الأعداء في عدوانهم على قطر عربي إسلامي بغض النظرعن موقفهم من قيادته، ومن هؤلاء العقلاء الشرفاء من العراقيين المعارضين للحكم العراقي أنفسهم، بل إن موقفهم من هذا الحكم لم يمنعهم من البرهنة على أن الوطن فوق كل الخلافات، وأنه يجب الدفاع عن ترابه وتراثه وحضارته وإنسانه ضد العدو الأجنبي الذي يستحيل أن يريد خيراً للأمة العربية والإسلامية. على أنه يوجد - مع الأسف الشديد - من دفعتهم المشاعر العرقية إلى التعاون مع المعتدين تعاوناً ما كان متوقعاً ممن يرعى للرابطة الإسلامية ذماماً. وهناك أسوأ من هؤلاء المدفوعين بمشاعر عرقية لذلك التعاون؛ إذ يجمعهم مع أبناء العراق وحدة الانتماء مع وحدة الدين، فراحوا يساعدون المعتدين مساعدة مدمية لقلوب المخلصين من أبناء الأمة، يندر أن يوجد من العقلاء من يكن وداً وتقديراً لحكومة العراق الحالية، لكن التعاون مع أعداء العرب والمسلمين الذين يرتكبون جرائم تهديم للعراق؛ إنساناً وحضارة وتراثاً، أمر مرفوض مؤسف سيزيد تعميق العداء لهم في مستقبل الأيام من شعب لا يمكن إلا أن يبقى في وطنه.