يفرض مجال العلاقة مع الآخر، هذا المكنون من التوتر الذي لا يعرف التوقف أو الانقطاع. وتأتي طبيعة المرحلة التاريخية لتأخذ هذا الإفصاح عن معاني التداخل وسط الحقول التي تبرز فيها مجالات التأثر والتأثير انطلاقاً من جملة العوامل المرتبطة بالمجالات التي تسهم في تحديد الاتجاه. وهكذا انطبعت العلاقة بين العرب والغرب بهذا القسر والفرض الذي بدر عن الغرب بحكم انسياحه في المجال العربي، الذي قيّض له بفعل التطورات التي أبرزها عصر النهضة الأوربية الذي اشتمل على مجمل الثورات الكبرى من دينية وجغرافية وصناعية وقانونية وثقافية. لقد توج الغرب سيطرته على الدولة العثمانية، باعتبارها الوعاء الرسمي الذي استوعب الوطن العربي في تلك الحقبة، حتى كان الاتجاه قد تمثل في هذا الفرض المباشر لقوة الآلة العسكرية التي تفوقت على الإمكانات المتاحة لدى الدولة العثمانية. وإزاء هذا التقابل من الضعف والقوة لم يعد هناك مجال للالتفات نحو حيز التنافس الاقتصادي، مادام أن القوة العسكرية قد حسمت الأمر حتى كانت النتائج قد تمثلت في حدة التدخل من قبل القوى الأجنبية في صلب الفعاليات الخاصة بالسيادة. من حالة الوهن السياسي والضعف الذي دب في المرافق الإدارية والتنظيمية، تفاقمت الفوضى وبدأ الاضطراب ينخر المؤسسات التي عانت من التهرؤ والهزال، حتى كان الخاسر الأكبر وسط هذه الفوضى القطاع الاقتصادي، الذي تمثلت فيه قسمات الضعف في الإنتاج الحرفي والعجز الفاضح في النشاط التجاري فيما كان لتوالي الأخطاء وانهيار مفاصل الدولة، أن أدى هذا التطلع الكثيف نحو الاستدانة وتوسيع مجال القروض المالية من القوى الكبرى، تحت دعوى معالجة المشاكل الطارئة التي كانت تتعرض لها إلا أن هذه السياسة كانت المبرر الأساس الذي جعل من الغرب أن يعمد إلى التدخل المباشر في الشؤون الداخلية للدولة العثمانية، حتى غدت هذه الأخيرة مجرد شبح دولة لا تملك من أمر نفسها سوى التسمية وبعض الطقوس الداخلية، فيما كانت سلطة القرار الأصيل والحقيقي، تعود للقناصل الأجانب. قراءة الواقع يكشف واقع العلاقات الدولية في القرن الثامن عشر وما بعده، عن النزوع المباشر الذي توجهت نحوه القوى الغربية، من أجل فرض سيطرتها على البلاد العثمانية، فيما كانت اتجاهات السياسة الداخلية والخارجية لهذه الأخيرة رخوة مترهلة، تحاول معالجة الإشكالات بروح الاستسلام القدري، حتى كانت ما أن تخرج من مأزق حتى تجد نفسها وقد غرقت في مأزق أكبر من سابقه. ورث العرب كل ركام هذه التركة الثقيلة من الأخطاء والتداخلات، حتى كان وعي النخبة العربية مشبعاً بالروحية العثمانية، على الرغم من حالة الادعاء بأن المرحلة العثمانية باتت من الركام الماضي الذي لا يستحق عناء الالتفات أو حتى الاهتمام فيما كان التطلع نحو تقصي التناقضات التي تفرض هيمنتها على الواقع العربي، عبر القراءة المنقوصة التي لا ترى من جبل الثلج سوى قمته الناتئة في أعلى الماء. وعلى هذا توجهت القراءة الناقدة نحو الواقع الاجتماعي، الذي تم ترصد مجمل التناقضات الكامنة فيه، حتى صارت المناداة بثالوث «الفقر والجهل والمرض» أمراً شديد الشيوع في الأدبيات الفكرية العربية، التي جعلت من المجتمع حصان طروادة الذي تختبئ فيه جميع الرزايا والبلايا وأسباب النكوص. اللجوء إلى الاستغراق في الإشارة إلى الخلل، من دون الخوض في الإنجاز، جعل من النخبة العربية تعاني من العجز الذي تسرب في مفاصلها الأساسية، حتى جعل منها عاجزة عن المبادرة، إلى الحد الذي تحول هذا الضعف والخواء إلى أداة للتقاطع ووسيلة للابتزاز على حساب العلاقات الأصلية التي يفرزها الواقع ليكون التقاطع الشديد الوضوح بين المثقف والمجتمع، هذا بحساب جهة الإنتاج المعرفي المرتبطة بالمثقف الذي تعرضت علاقته بالمجتمع إلى التشنج وسوء الفهم، انطلاقا من المحاولات الدائبة نحو وسم العلاقات السائدة بالرؤى الجاهزة غير الخاضعة لتبادل الآراء فيها أو وجهات النظر فالمرجعية ثابتة غير قابلة للأخذ والرد، حيث الفوقية في أقصاها. تفشي الإحباط الإثقال الذي يربض على الواقع العربي، يجعل منه في أتون المعاناة الشديدة التي لا تعرف خلاصا أو حتى أملاً بالنجاة حتى كان السؤال الدائم حول هذه الاختناقات والإشكالات التي تفرض بنفسها على الواقع العربي ليكون التطلع نحو المزيد من الترصد والتدقيق في الحقول والقطاعات المرتبطة بشؤون وتفاصيل الواقع المجتمعي الذي يحكم العرب حتى ان التشخيص لمكامن الخلل بات يركز على أهمية الوقوف عند هذه النزعة المتطلعة بشكل شغف نحو الماضي، إلى الحد الذي صارت النظرة إلى تفاعلات الراهن المعاصر، خارج نطاق العناية والاهتمام ومن هذا الوعي المأزوم تتبدى الإشكالية الأهم التي يخوض في مجالها العرب، حتى تكون الإفرازات الهجينة، التي باتت تشكل الخطر الداهم، لجميع مرتكزات الحياة المعاصرة، تحت دعاوى ومقولات قوامها الانغماس في التقليد. لا تتوقف الأزمة والإشكال عند قطاع بعينه، بل يكاد الخلل أن يكون متفشياً إن كان على صعيد السلطة السياسية، التي تحددت خطواتها في هذا المجال الشائك من التبادلات والتحولات التي يشهدها المسرح الدولي، الذي بات يفرز المزيد من الضغوط والاستتباعات، إن كان على صعيد ظهور النظام الدولي الجديد والاستتباعات الملحقة به، حيث العولمة المتطلعة نحو توطيد النموذج وفرض قيمها وشؤونها وشجونها على مجمل الأنظمة في العالم.ومن هذا التداخل المقيم يبقى النظام العربي الرسمي منقسماً على نفسه بازاء هذه التحولات، ما بين قبول أو رفض مطلق، لكن الأهم في كل هذا يقوم على ترصد ملامح التداعي الذي يعم الواقع.من جانب آخر يبرز بوضوح بقاء أحوال المجتمع العربي على ما هي عليه، من دون أن تظهر للعيان أية بوادر نحو الارتقاء بمستوى المواطن، إن كان على صعيد الحريات العامة والحقوق الأساسية المرتبطة بواقع العلاقة مع السلطة العليا.وإذا ما ظهرت بعض بوادر التوسع في بعض قطاعات التعليم أو الأجهزة الخدمية أو حتى البنى الارتكازية فإن الأصل هنا يقوم على نمو المجتمعات الطبيعي، وليس لحسابات التنمية أو حتى التفكير بالتطوير. حضور الثنائيات يفصح الواقع العربي عن حالة التوتر المقيم والشديد بين السلطة والمجتمع وعلى هذا فإنه ليس من الغريب أن تكون النكسات والهزائم والركود بمثابة السمات والتوصيفات التي لا تقبل فكاكاً لهذا الواقع فالهدر في أقصاه يتبدى في الهدر اللافت الذي يطبع مجمل الفعاليات، هذا إذا كان في الأصل وجود للفعاليات أو حتى المبادرات. وبعد أن أضحى الوطن العربي حقل تجارب لمرور مختلف التيارات والاتجاهات السياسية عليه، والعمل على تثبيت الرؤى والتصورات، التي غالبا ما تقاطعت مع الآمال والأهداف التي ينشدها المجتمع. التفريط بالحقوق وغياب المسؤولية جعل من المواطن العربي يعيش حالة التباعد اللافت عن مجمل الأنشطة والفعاليات الصادرة عن الجهات الرسمية والحكومية، بل إن التفاقم يبلغ أقصاه عندما تغيب الرقابة والتدقيق، ليعم الفساد مجمل المؤسسات، إلى الحد الذي صار الانهيار والسقوط حالة متكررة للعديد من المشاريع، التي كان يؤمل منها تحقيق النهوض واستقطاب الكفاءات الوطنية. ولعل اللافت في الأمر أن الانسياق نحو المشاريع، لم تعد تحدده الأهمية التنموية أو الفوائد الاقتصادية التي يمكن أن يحصل عليها المجتمع، بقدر ما صار التطلع نحو التفخيم والتعظيم والمبالغة، التي تزيد الواقع عبئاً فوق المشاكل والتداخلات المتفاقمة والمتراكمة. من واقع الصراع الذي احتدم لدى العرب ما بين الماركسيين والقوميين الذي طبع حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بات التحول اليوم نحو صراع جديد يُسجل لصالح الثنائية القائمة ما بين العلمانيين والأصوليين. ومن وعي التجزؤ والانخراط في جهة على حساب أخرى، يكون التركيز وقد فقد وظيفته الأصلية والقائمة نحو التفكر الجاد والعميق بشؤون وشجون الأمة، وليس هذه الانفصالية الحادة التي تنشر بقلوعها على واقع الفكر السياسي العربي، التي تغيب وسط مشغلات الصراع فيه، ملامح المعرفة والتعقيل والتنوير، حتى ليكون الخاسر الأكبر وسط هذا الانقسام المقيم، الأنشطة والفعاليات الأصلية التي يجب أن يضطلع بها الإنسان. *أكاديمي وباحث متخصص في شؤون تاريخ الفكر العربي الحديث [email protected]