في الفواصل والتمايزات التي يتم الوقوف عليها، في سبيل الوقوف على السمات الأساسية التي تحدد نطاقاً ثقافياً لمجتمع ما.. تبرز المحاولات المباشرة نحو التمييز بين النشأة والمراحل اللاحقة، ومدى مجال التراكم الذي تحصّل عليه ذلك المجتمع، من خلال ترصد الملامح الرئيسة التي تفرزها الوظيفة الثقافية، في ترسيم معالم الوعي المتداول، وإذا كان الولع يتطلع بالعادة نحو ترصدات مجال التحقيب والنمو، فإن الفصل المباشر بين البعيد والموصوف غالباً بالبدائي، والراهن الذي يوصف بالمعاصرة باعتبارها سمة ايجابية، أو بالتجليات التي تفرضها طبيعة المرحلة التاريخية، بكل ما تحمله من ملامح القوة أو الوهن، يكون النظر نحو انتقاء حقبة بعينها والعمل على تكريسها وجعلها بمثابة المثال والمرجع، الذي يتم التأصيل من خلاله للإطار الوظيفي الذي يكون مداراً للتفعيل والبناء والاشتغال.. هذا مع أهمية الوقوف على أن التطلع هذا يبقى مرتهناً بطبيعة السائد والمتاح الذي تمنحه البيئة الثقافية ذاتها، بكل ما تحمله من قيم وأنماط وممارسات وسياقات شائعة وسائدة. الأنا المضيّع السؤال المباشر الذي يتبدى دائماً يبقى يتفاعل عند ثنائية «الثابت والمتحول»، حتى لتكون حضورية البحث عن الأنا الثقافي، هذا الذي يتجلى تارة بوصفه طبعاً ومزاجاً وذائقة مرتبطة بالأخلاق والتقاليد والأعراف والقيم التي يقوم عليها مجتمع بعينه، أو يتمظهر حيناً بطبيعة التفاعل من مفردات الثقافة الإنسانية بعمومها، انطلاقاً من تقديم مجال التأثر والتأثير والنقل والاقتباس والإفادة من التراكم الذي أنتجته المدارك الإنسانية بعمومها.. ومن واقع الاختلاط الذي يفرض بحضوره على طبيعة النظرة السائدة حول مفهوم الثقافة، الذي يتداخل حيناً بالطبيعة البشرية حيناً، أو تحديد الطبيعة الوظائفية لها، باعتبار ما يمكن الوقوف من خلالها على طبيعة التطور في الوعي والقدرة على التفاعل داخل الوسيط الاجتماعي، والانسجام مع المحيط والبيئة الإنسانية العامة والشاملة.. لكن توصيفاً بهذا النوع لا ينفي محاولة الوقوف على التفاصيل والسمات التي تتبدى على المجال الفرعي، حيث الثقافة الخاصة بمجتمع بعينه، أو الأخذ بنظر الاعتبار السمة العامة التي تميز عصراً ما وتحدد ملامح الثقافة الإنسانية في حقبة تاريخية لها ملامحها ومكوناتها، حيث التعبير عن روح العصر والتقاليد السائدة فيه والمعايير الخاصة به. تبقى دالة السؤال شاخصة حول المعنى الذي يمكن الوقوف عليه، حول مسألة تحديد مجال القيم والأعراف والتقاليد، وما هو المحدد الذي يمكن من خلاله ترسيم معالم التحول فيها، على الرغم من حالة السطوة والهيمنة والقوة التي تتبدى عليها في صلب العلاقات الاجتماعية، إلى الحد الذي تتعمق النظرة إلى هذه القيم وتتسامى في الكثير من الأحيان إلى حد التقديس، بل ان الكثير من القيم والتقاليد الموروثة لطالما تداخلت في نسيج الوعي حتى بات من العسير الفصل بين المعاصر الراهن، وتراكمات الماضي الموغل بقدمه.. بل ان المفارقة تكمن في طريقة التمثيل للمعنى، حين يتم تمثيل القيم القديمة وتقديمها بشكل معاصر، ليتعمق مدلول الأزمة ويتبدى حاضراً في الشكوى العالية والأسى والحزن العميق حول هذا الفقد الذي يبقى مقيماً، على الرغم من التماهي الذي تغلب عليه الحماسة مع المعاصرة، لكن التقاطع يبقى شاخصاً في حضور الشكلي والسطحي على حساب العميق والأصيل. الترويج والتحريض لا يتردد العربي في التداول الحياتي المباشر من الانخراط في تجليات الحماسة، حين يكون المرور على ذكر القيم، بل ان هذه المفردة بقيت رائجة في قاموس التعامل اليومي، بوصفها قيمة إيجابية، ومن هذا تم اخراج هذه المفردة في الوسيط العربي من مجال وظيفتها الاجتماعية، وراح يتم الترويج لها بوصفها منظوراً تطغى عليه التهويمات والتداخلات والتخريجات الخاصة، التي تحرص على تقديمها القوى المهيمنة في سبيل تدعيم وجودها وترصين نفوذها، على حساب المضمون الفاعل والحقيقي لها، والذي يستند إلى مضمون التعبير والتأصيل للواقع، حيث الربط الأصيل بين القيم والثقافة.. وما بين الإنتاج وإعادة الإنتاج لهذه المفردة، راحت مظاهر الترهل تبرز للعيان لتغطي على مجمل التفصيلات، تلك التي غابت في زحمة الانشغال بالشكل على حساب المضمون. في ظل الاختلاط في المفاهيم يكون التحجر حاضراً، بجاهزية ملفتة، حول هذا التوقف الذي يتم الاحتفاء به، على الرغم من التفريط والفقد الذي يحدثه مثل هذا التوظيف، بالنسبة لما يمكن أن يتم تثميره من معطيات تدخل في صلب المنظومة الأخلاقية والجمالية والتعبيرية داخل النطاق الاجتماعي. فالانتقاء يبدأ العنصر الدائم والأشد حضوراً في مجمل الفعاليات، التي يتم ربطها بمسألة الثقافة لمجتمع ما، وعلى هذا تبرز التعميمات حول ثقافة العنف الملازمة للمجتمعات الفقيرة، أو ثقافة التكلف في المجتمعات الثرية، وهكذا يتم الغور في توزيعات وتفصيلات، ليكون الدأب نحو تلفيق توصيف على المقاس النظري، يتم من خلاله إسباغ السمة العلمية عليها، تحت دعوى التحديد العلمي الدقيق. بقي الاتكاء في طريقة النظر نحو الثقافة في المجال العربي، باعتبار ما تمثله من معطى ظرفي، قوامه تحقق الغايات والأهداف التي تعزز مكانة اصحاب الحظوة والنفوذ، ومن هذا راح التكريس يتطلع وبكل قوة نحو تحميلها بالترسيمة القيمية الثابتة، حيث الخواف وسيطرة الهواجس حول الخراب والفوضى التي ستحل بالأرجاء، إذا ما تعرضت هذه المنظومة القيمية الثابتة، إلى أية محاولة للحفز والتحريك على أمل التغيير.. إنها «قيم السيطرة» الساعية إلى «سيطرة القيم» وجعلها المطلق الساعي نحو إلغاء النسبي، بمثابة الشرط النهائي للعلاقات والوجود والتفكير.