كل الجراح تنزف دما وصديدا.. أخطرها وأقساها وجعا ذلك الجرح النازف من كرامة الإنسان وحريته. نعم جرح الجسد يؤذي ويؤلم، الا انه لا يقتل.. حتى الموت فيه أهون من موت الحياة التي تستغرق الروح والجسد معا.. هذا مجرد مدخل قصير ومتواضع لما أنا بصدده.. إن ديوان شاعرنا سعد سعيد الرفاعي الذي تعرفت عليه من خلال قصائده.. احسست انني أعرفه كما لم اعرف كثيرين التقيت بهم لقيا العابر الذي لا يحمل قيمة.. ولا يترك أثرا.. وان ترك لطالما ينسى.. لمست في باكورة عطائه الشعري محاولة اجتهادية جادة ملؤها الصدق والمصابرة والمثابرة.. كيف لا.. والألف ميل تبدأ بخطوة.. وأحسب انه خطا خطوات محسوبة ومحسومة على جادة الكلمة الشعرية الشاعر.. لتكن البداية مع مقطوعته الأولى بعنوان «بلادي» وحسنا كانت البداية: «بلادي إليك نشيد الوفاء فمنكِ استقيت العلا والاباء ومنكِ تهجيت عشق الطموح ومنك غرفت معاني الغداء «غرفت» كلمة غير شاعرية.. حبذا لو كانت نهلت اذا لكانت أجمل وقعا على الحس.. ويمضي في قصيدته: «شعارك يخوي رموزا تضيء» وأظنه خطأ مطبعي يعني «يحوي» إلى ان يقول وهو يتحدث عن رمز الشعار: «وفيه البياض نداء السلام لشعب أبي يحب الإخاء» الشعار يا صديقي بياضه لا يعني النداء.. وإنما الذي يفصح ويعبر عنه «رداء» أو «كموجه السلام» ويمضي محددا ملامح صورة الموطن الذي يتحدث عنه: «وسيف يشير لعزم الشريعة ردع شديد لأي اعتداء ونخل مليء بحلو الثمار لينطق صدقا بجود العطاء بلادي فديت بكل نفيس ونبذل «دونك أزكى الدماء» جميل من شاعر هذا الانتماء، والارتماء في احضان الوطن. وعن عظمة الاسلام له صوت وعظة: «طالعت تاريخاً من الصفحات يحكي دروسا سطرت بثبات يحكي لنا سيراً لأعظم امة.. جاءت لتوقظه من عميق سبات.. جاءت لتوقظ جاهلا من رقدة وتعيد في إغضائه النبضات» ليت شاعرنا استعان بمفردة «اغفائه» عوضاً عن إغضائه.. ويتحدث عن عصر النبوة والرسالة المحمدية، كيف بدأت وإلى اين انتهت معيدة للبشرية حياة الاسلام والسلام.. وروح الإيمان والأمان. تجاوز «نداء الوطن» فقد اعطى في مقطوعته السابقة.. وانيخ بركبي تحت «شموس النصر» إذ سطعت شموس النصر في الأرجاء واذا العدو ممزق الأشلاء وطوت غيوم الحرب. ان غيومها هدم. وتخريب. وسفك دماء واستقبل الوطن العزيز وأهله ان الخلاص بسجدة.. ودعاء كان يشير إلى خلاص الجارة الشقيقة الكويت من الغزو الصدامي.. الى أن يقول: «لا نرتضي ذلا يراد بأرضنا نفدي البلاد بأنفس الاشياء».. الذل يراد للأرض.. وليس بالأرض.. أليس كذلك؟! ومن الشموس المتوهجة في السماء إلى رحيق الزهور الذي يعطر الأرض: «سلام يبث لكل الحضور بصدق التآخي. وصدق الشعور سلام يزف إلى محفل أجاب النداء بفيض السرور» أين هو النداء..؟ واين هي الزهور والعطور في مقطوعته؟! عبر قصيدته، أو ما تبقى منها كانت زهوره وعطوره مجرد استعراض وعظي له نكهة العطر.. الا انه ليس بزهر.. لا عجب.. الا انه يتعجب! «وعجبت من هذا الزمان طويلا فطفقت أطلب جاهدا تعليلا فزماننا فيه العجائب كلها! بجراحه أضحى الصغار كهولا. إن العجائب سبعة. فبدت لنا في صفحة الزمن العجيب قليلا وراح يعدها لنا شعرا واحدة واحدة.. المتزلفة، عزيز ذل، المغني البخيل المبجل، الفقير المعدم. النفاق، المشاعر الرخيصة، المظاهر الكذابة، الصراحة الغائبة.. أن تعجبك يا صديقي في محله.. ماذا عن صدق العطاء في شعره؟! «نمضي الحياة، وللعطاء حدود والصدق خير محفز ووقود والمرء يسمو بالعطاء الى العلا ويروم ذكراً. والطريق مجيدا والمرء يصدق في العطاء لعلمه ارث العطاء محبة وخلود» أحسنت التوصيف فالعطاء الصادق إرث لا يموت.. وذكرى لا تمحى من ذاكرة الأحياء مهما طال الزمن.. نتجاوز في حب «حروف الثناء» لخصوصيتها لنقف وقفة الكبار مع صرخة في وجه الطغاة: «نطق اليراع. وحرفه زلزال ومداده مما رأى سيال فمن المذابح يستمد يراعه رغم القنابل صوته فعال» من ذا يعني؟ واية مذابح يشير إليها انه يعني جلادي بلغراد.. الصرب.. «فالصرب عاثوا في البلاد بطولها وغرامهم رؤيا الدماء تسال ارخو رداء الحقد فوق قلوبهم فتوهموا ان الحياة قتال.! ويصرخ بملء صوته وقد استبدبه الحنق والرفض لما يجري من دماء تجري.. «ياويحهم لم يرحموا من حقدهم شيخا كبيرا يعتريه هزال لم يرحموا أما تنوء بحملها.. وعلى الجبين تسابق الانذال» «الجبين هنا نافرة في سياقها.. لعل شاعرنا كان يقصد «الجنين» في بطن امه، وقد ناءت بحمله.. ويسترسل في إكمال الصورة الدراماتيكية للمأساة: «لم يرحموا طفلاً بريئا قد جرى بين الحقول. تحفه الآمال. وعلى الصبايا سلطوا أوغادهم ومن العفاف بخسة قد نالوا» صرخته في وجه الطغاة جديرة بالإشادة والاجادة الوصفية.. لعلها من أجمل قصائد الديوان ان لم تكن أجملها.. ومن صرخته الى فرحته بالعيد الذي يرتدى من اجله الجديد مذكرا بمن لا يملكون جديدا يرتدونه: «فللعيد سحر يضيء به فؤاد الكبير، وقلب الصغير وبالعيد أقدامنا يممت لذي رحم، او صديق نزور وللجار نركض في لهفة فللجار حق علينا كبير» ويمضي في لوحته الشعرية الفطرية النبيلة: «هلمُّوا نبارك لإخواننا بقلب محب. مضيء الشعور هَلُمُّوا لنسعد طفلا جرت على وجنتيه دموع الفقير هلمُّوا لطفل بكى يتمه الى العيد يرنو بقلب كسير هلموا نهرول إلى منزل يضم كسيحا وشيخا ضرير هلموا نقدم بأموالنا لإخوة دين بوضع خطير» رغم جمال الوصايا.. الا ان مطبات بدت في أكثر من شطر ألخص مفرداتها في الآتي: «إخواننا بدل لإخواننا» «هلموا نسير بدلا من نهرول» «نقدم اموالنا بدلا من نقدم بأموالنا» هذه المرة يتقدم شاعرنا الرفاعي بشجبه.. اليس من امة سلاحها الشجب؟! الا ان شجبه اقوى من الرصاصة. «شجب! أتتني ترفع التنديدا ولها بكاء يخنق التنهيدا!» ما الحكاية.. من تكون هذه التي أخرسها البكاء إلى درجة الاختناق؟! يبدو انها امرأة مصابة بالحزن والغبن.. «اني بليت بمعشر لم يدركوا معنى، اضاع لأجله تهديدا كم كنت ارفل في الذرا عملاقة وعلى الكرامة منزلي قد شيدا والآن يغرق في المهانة منزلي ما عدت أحمل للعدو وعيدا» لا.. انها ليست امرأة.. انها اكبر.. انها امة تنازل العدوان ثلثها مشرد، وثلثها مستشهد.. والباقي في خندق المقاومة.. اخترت ألا اتوقف عند الخيار، ففي الديوان ما هو أهم منه.. انه الصراع مع النفس حيث نعاني جميعا: «صراع النفس آهات وسهد وخوف من حنايا النفس يعود ودمع فر من سجن المآقي ليعزف لحن حزني، بل ويشدو» رائع هذا التوصيف بجمالياته وقواسمه المشتركة.. «ونوم إن تأهب للعناق تحرك نحوه للفتك سهد» هلا أبدلت ياصديقي مفردة «للعناق» العرجاء بمفردة «التلاقي» مثلا «ويغفو القلب في حضن المآسي كما يغفو لقلب الصب وجد» ويتحدث في القصيدة عن رحلته التي طالت تائهة خلف السراب بحثا عن لحظة سرور غامضة ومجهولة ترى من مكابدة الهم الا ان قلبه شاخ دون خلاص من كابوس همه.. ووجد ضالته اخيرا في كتاب الله القرآن الكريم الذي اراح النفس، ورطَّب الحس.. وفتح بوابة الأمل واسعة أمام ناظريه.. «نهاية حلم قديم» كي نسبر أغوار الحلم إلى النهاية لابد وأن نعيش بتأملنا مع الشاعر من خلال شعره: «على وجنتيها تراءى القمر تراءى الجمال بأبهى الصور تراءت بطلعتها صورة لحلم توسدني واستقر» تراءت لا تعطي المعنى بقدر ما تعطيه «تجلت، أو اطلت» هكذا أتصور.. ومع القصيدة حيث انتفض الشاعر، وشمر عن ساعديه بحثا عن حلمه القديم لعله يلقاه. «رحلت أفتش عن داره بقاصي البلاد، ونائي الجرار. وأسأل من اجله طائرا يجوب الصحارى. وارض المدر» إلى أين وصل؟ لقد اضناه المسير. وأعياه السهد. وسئم البحث.. ولامس بأقدامه البحر، كما لو كان يبحث عن عروسته الخيالية: «فجئت إلى البحر اودعت فيه جراحي، وكفنت بعض الكدر وجدتك حلما على شطه كأجمل حلم رآه البشر» هكذا الأحلام يا صديقي انها خادعة مخادعة إلى انها لذيذة المطعم قبل ان نصحو وليس بعده.. لندع لمشاعرنا يراعه يحركه كيف يشاء، فنحن نعيش في غماره.. ولنترك المغص الجريح لطبيب النبات فهو المختص.. اما لماذا تركناه، فلأن في الفخ اكبر من عصفور.. انهار ثانية لابد وان نمر عليها في عجالة.. «وتركتني، ورحلت دون وداع وتركتني في لجة. وصراع وتركتني كسفينة تلهو بها هوج الرياح. وما احتمت بشراع ونسيت حبا قد نثرت بذوره أوليته خلف النسيم دفاعي» أهمس في اذنه مواسيا لا عاتبا.. «ما أنت اول سار غره قمر» كثيرون غيرك لاقوا نفس المصير.. لا تكترث. اخذنا من تجربة حبه وقفة عظة.. حبيبة قلب لن تكون بعيدة عن التجربة، حتى ولو أسماها حبيبته، نهاية عشق الشعراء معروفة حتى لو أدخلوا في وصفهم.. وماتوا في حبهم.. «جمال الربيع» نعرفه والمعروف لا يُعَّرف.. وبدلا من جمال الربيع تأخذنا المسيرة الى القتال المريع على ارض الشيشان.. إلى الجرح النازف.. أو إلى نزيف الجرح كما عنونه: «نزيف الجرح في الشيشان بحر ونار الحرب ويلات وذعر.. وصوت في سماء الحرب يعلو: أغيثوا مسلما يغشاه قهر أغيثوا من تحاصره الشظايا بليل كله ويلٌ ونحر أغيثوا مسلما شرب المآسي بكأس ملؤها ذل وغدر» ترى هل ان احداً سمع بهذه الاستغاثة واستجاب.. أو على الأقل اجاب.. ليست الشيشان وحدها التي تستغيث . أقطار عربية وإسلامية تصرخ بالنداء.. ولكن... «مأساة الام» أبكتني كأي مأساة.. تبقى المواسات.. اما «الزهور الذابلة» لندعها لفصل الربيع كي تورق غصونها من جديد.. يومها قد تجد من يتغنى بها وبأريجها.. القصيدتان جميلتان الا ان مساحة الرحلة قصيرة أثرت ان اختارها كي اقف معك دافعا ومدافعا في مواجهة الذين ضقت ذرعاً بهم وأفردت لهم إحدى قصائدك «ماذا أقول؟ «ماذا أقول لمن يريد صدامي؟ ولمن تبوح محابر الأقلام؟ ماذا اقول لحاقد متربص جثمت عليه غلائل الأوهام؟ ماذا اقول لحاسد قد شانه ان الرقي على الصعاب وسامي؟ انا ما اقترفت جناية بتطلعي كلا.. ولا أجرمت في احلامي اني سعيت الى القلوب تشوقا وتطلعا لمحبة ووئام.. فحملت قلبي راحة مخضرة.. حملتها بالورد ذي الأكمام» انا. والنقاء قصيدة ماملها طير يتوق لأعذب الأنغام» وصلت رسالتك.. قل للحاسدين هداكم الله.. أما انا فأقول شكراً على بطاقتك الشعرية الجميلة.. ومزيدا من العطاء.