كان يحدِّثني بلهجة المعاتب الذي يرى أنَّ واقع أمريكا وأوروبا والدولة اليهودية في فلسطين يخالف ما «أدَّعيه» - حسب تعبيره - من تهافُت الحضارة الغربية، وسقوطها دينياً وخلقياً، وقال: لا يمكن أن ننظر إلى هذه «الحضارة» بهذه النظرة السلبية غير الموضوعية، فأمريكا دولة قوية شئنا أم أبينا، ولديها القدرة على أن تسيطر على العالم، وما يجري هذه الأيام خير دليل على ذلك، وتابع قوله مؤكداً أن أوروبا كذلك قوية، وأنها تحمل كل مقومات السيطرة وتحقيق مصالحها ومصالح شعوبها، وقال: إن دولة اليهود في فلسطين دولة ذات قوة وسيادة وسيطرةٍ نعرفها جميعاً، وما دام الأمر كذلك فلماذا يكثر حديثك شعراً ونثراً عن تهاتف الغرب، وسقوط حضارته، وانحرافه الأخلاقي، ولماذا تحاول أن تهوِّن من شأن حضارة قائمةٍ، وقوَّة موجودة نراها بأعيننا ليل نهار؟؟ كان يتحدَّث إليَّ بهذه المعاني وأنا أستمع إليه باهتمام، لأن الموضوع الذي يطرحه مهم جداً، وكثير من المسلمين يعيش مثل هذه الحالة الضبابية في فهم الأمور والربط بين الأحداث، وأنا هنا لا ألومهم على ذلك، وإنما يقع اللَّوم على قادة الأمة الإسلامية في هذا العصر سياسياً وعلمياً وثقافياً، حيث تظلُّ الرؤية الإسلامية المستوعبة الصحيحة المنبثقة من القرآن والسنة متوارية عن عامة الناس، لا تحظى بالطَّرح الإعلامي القويّ الذي يعرِّف الناس بالموقف الإسلامي الصحيح من الأحداث، والمواقف والأشخاص، ويعلّمهم الطريقة الصحيحة في الحكم على الأشياء حكماً موضوعياً لا يواري ولا يداري، ولا يغطِّي الحقائق، وما زلنا نكرِّر - ولا نملُّ من التكرار - أنَّ علينا جميعاً ألا ننْسى في خضمِّ هذه الأحداث أننا أقوياء بإسلامنا، وأنَّ المشكلة الكبرى تكمن فينا - نحن المسلمين - وليس في منهجنا الإسلامي وعقيدتنا الصحيحة، وأنَّ هذا الشَّتات المؤلم الذي تعيشه الأمَّة الإسلامية في هذا العصر ناتجٌ عن تفريطها في دينها، وانسياقها وراء أفكار الآخرين، ومخطَّطاتهم، وأخلاقهم، وأن الأمة الإسلامية تفرَّقت شيعاً وأحزاباً، وحاربت بعضها، وأهدرت سنواتٍ طويلة في الخلافات، والعداوات التي نشأت من تبعيةٍ مؤسفة لمعتقدات الغرب، وأفكاره ومبادئه التي تنبثق من نظرته المنحرفة للحياة والكون والإنسان. وهنا أقول للأخ الكريم الذي كان يحدِّثني بما أشرت إليه سابقاً: أنا لم أهوِّن من قوَّة الأعداء، وطغيانهم، وتسلُّطهم، ولكنني أنادي المسلمين إلى عدم الانسياق وراء أعدائهم في مجالات العقيدة والفكر والثقافة، ولا في مجال السياسة والإعلام والاقتصاد، لأن الأعداء ينطلقون من منطلقاتٍ منحرفة عن الفطرة السليمة في مجملها، وإن كانت هنالك بعض الايجابيات والأخلاق، والصفات الطيبة التي تمليها عليهم - أحياناً - معالم الفطرة البشرية السليمة التي فطر الله الناس عليها، هذا من جانب. وهناك جانب آخر أطرحه على أمتنا الإسلامية من خلال ما أكتب ألا وهو تذكيرها بأن مصادر قوَّتها موجودة في دينها وقيمها، وأنَّ هذا الطغيان الغربي سرعان ما يزول إذا لا قيناه بإضاءات شريعتنا الخالدة السمحة الراشدة، وأنَّه لا يجوز لنا - بالرغم من سوء الأحوال - أن نغفل عن الرؤية الشرعية الصحيحة لما يجري، فانتشار الزنا واللواط والخمور والرِّبا، والاستهانة بالأعراض، والظلم السياسي والعسكري الذي تُستحل به الدماء البريئة في هذا العصر، كل ذلك دليلٌ على تهافت المدنية الغربية المعاصرة، وعلى استحقاقها لحدوث سنن الله الكونية في معاقبة المجاهرين والمكابرين والمتغطرسين والمحاربين لدين الله الحق. إني أقول للأخ الكريم وللجميع: إنَّ ترسيخ معاني القرآن الكريم في هذه المرحلة مهم جداً لأسباب منها: 1- في القرآن دلائل واضحة على أنَّ عقاب المتغطرسين لا ينزل بهم - غالباً - إلا حينما يتجاوزون الحدَّ في الغطرسة والاستكبار، وحينما يظنُّ عامة الناس أنهم لا يُغلبون. 2- أن القرآن الكريم يملأ قلوبنا باليقين والاطمئنان، وعقولنا بالارشاد والتوجيه، ويعيننا على التفكير السليم في مواجهة الأحداث المظلمة. 3- أنه يفتح لنا منافذ الرؤية الصحيحة للوقائع التي تجري، ويضع أيدينا على الحلول الناجعة التي ترفع من معنويات المسلمين في وقت بدأوا يشعرون فيه باليأس من أحوالهم. 4- أن التأمُّل في القرآن الكريم وآياته البينات يحمينا من هذا الغبش، وهذا الإرجاف الذي تنشره وسائل الإعلام المختلفة بأخبارها المصورة وغير المصورة وبرامجها الحوارية وغير الحوارية، وتقاريرها الإخبارية التي تنقل إلى الناس آراء الأشخاص والأحزاب علينا - نحن المسلمين - بعد أنْ فرَّطنا في إعداد القوة المادية أمام أعدائنا - أنْ نحرص على إعداد القوة المعنوية المتمثِّلة في لجوئنا الحقيقي إلى ربِّ العالمين. وفي سورة الفجر التي نقرؤها كثيراً دليلٌ واضح من بين عشرات الأدلَّة القرآنية التي تؤكد لنا هزيمة الطغيان البشري حين قوَّته وجبروته. )أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ) (6) إرّمّ ذّاتٌ العٌمّادٌ (7) التٌي لّمً يٍخًلّقً مٌثًلٍهّا فٌي البٌلادٌ (8) وّثّمٍودّ الذٌينّ جّابٍوا الصَّخًرّ بٌالًوّادٌ (9) وّفٌرًعّوًنّ ذٌي الأّوًتّادٌ (10) الّذٌينّ طّغّوًا فٌي البٌلادٌ (11) فّأّكًثّرٍوا فٌيهّا الففّسّادّ (12) فّصّبَّ عّلّيًهٌمً رّبٍَكّ سّوًطّ عّذّابُ (13) إنَّ رّبَّكّ لّبٌالًمٌرًصّادٌ}. تأمَّلوا معي هذه الآيات الكريمات وقفوا عند العبارات: (ذات العماد، لم يخلق مثلها في البلاد، جابوا الصخر بالواد، ذي الأوتاد، طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد). تأمَّلوا معي هذه الآيات الكريمات وقفوا عند العبارات: (ذات العماد، لم يخلق مثلها في البلاد، جابوا الصخر بالواد، ذي الأوتاد، طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد). ثم قيسوا هذا بما يجري اليوم من استكبار وطغيان وقوَّة أعداء الإسلام، ثم قفوا معي وقفة يقين وشموخ أمام قوله تعالى: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) ان ربك لبالمرصاد ) . هنا أيها الأحبة تكمن عوامل قوتنا فما دام الله بالمرصاد للظالمين، فنحن أقوى منهم، لكن الشرط المهم هو أن نكون في علاقتنا بالله على مستوى المؤمنين الذين يستحقون نصره وتأييده. إشارة : يا قلاعَ الأمجاد، بُشراكِ، انَّا قد مدَدْنا إلى الصَّباح اليمينا