تكاد تكون الحرب على العراق بقيادة أمريكا أمراً حتمياً وربما تكون الطريقة الوحيدة لمنع غزو أمريكي على نطاق واسع هي حدوث انقلاب عسكري بقيادة الحرس الجمهوري أو وفاة صدام حسين أو موافقة الحكومة العراقية دون قيد أو شرط على مطالب الأممالمتحدة بالإعلان عن جميع أسلحة الدمار الشامل المتبقية لدى العراق. ولكن ولأسباب عديدة لا يبدو أي من هذه الاحتمالات وارداً على الأقل في المستقبل المنظور. ولذلك فإن البديل الأمريكي سيكون عمليات قصف جوي مكثفة قد تستمر لثلاثة أسابيع تمهد لغزوٍ بري واسع النطاق يشارك فيه نحو 350 ألف جندي تنطلق من الكويتوتركيا. من نافلة القول إن عملية عسكرية واسعة للإطاحة بنظام صدام سيكون لها انعكاسات هائلة ليس على العراق وحسب ولكن على دول منطقة الخليج أيضاً. ولإلقاء الضوء على التبعات المتوقعة لهذه الحرب عقدت في مركز الخليج للأبحاث بالتعاون والتنسيق مع المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية تحت عنوان «التدخل في منطقة الخليج» واستعرض فيها نخبة من الأكاديميين والخبراء في شؤون المنطقة على مدى يومين متتالين (16 - 17 فبراير 2003) أهم القضايا المتعلقة بانعكاسات التدخل العسكري الأمريكي وتغيير النظام في العراق على منطقة الخليج وخصوصاً الآثار المباشرة على السياسات المحلية والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. كما تطرق المشاركون إلى مناقشة موضوع التدخل من النواحي القانونية والسياسية والإدارية وتأثيراتها على سيادة الدولة، وكذلك التحديات التي يفرضها التدخل في مجالات حفظ الأمن والمؤسسات القضائية وحقوق الإنسان وتسوية النزعات وحماية الأشخاص والفئات المحسوبة على النظام السابق، هذا بالإضافة إلى ضرورة ضمان مراقبة المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية وحقوق الإنسان لعمليات التدخل وذلك لضمان عدم إساءة استخدام التدخل لتحقيق مصالح خاصة. أدار جلسات الحلقة الدراسية الدكتور يزيد صايغ مستشار المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة كامبردج، والدكتور توبي دودج الأستاذ والباحث في جامعة ورويك البريطانية، وأثريا النقاش بما قدماه من مداخلات ومساهمات قيّمة. كما قدم عبد العزيز بن عثمان بن صقر رئيس مركز الخليج للأبحاث اقتراحاً بوضع خطة عمل شاملة ومفصلة لإنشاء هيئة عربية للتدخل لأسباب إنسانية وحفظ السلام تشارك فيها وتمولها جميع الدول العربية وذلك للعمل على منع نشوء الصراعات أو تسويتها حال حدوثها وإحلال السلام ومعالجة جميع القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يمكن أن تنشأ عن هذه الصراعات. كما قدم تصوراً لما يمكن أن تكون عليه العلاقات بين دول المجلس والعراق في مرحلة ما بعد صدام وما يمكن أن تقدمه هذه الدول للعراق. الدكتور نصيف حِتّي مدير مكتب الجامعة العربية في باريس والدكتورة نهال فهمي من المجلس المصري للشؤون الخارجية وأستاذة إدارة المنظمات الدولية في جامعة القاهرة استعرضا تجربتهما الغنية في هذا المجال وقدما توصيات يمكن أن تجعل دول الجنوب بشكل عام والدول العربية على وجه الخصوص تشارك بشكل فعّال في عمليات التدخل لتسوية الصرعات وتزيل ما يعترض هذا المفهوم من غموض والتباس. الدكتور جمال سند السويدي رئيس مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية قدّم استطلاعاً للرأي شمل عيّنة من المواطنين في دولة الإمارات العربية المتحدة رصد فيه الآراء والمواقف من الأزمة العراقية والحرب الأمريكية المحتملة على العراق. اللواء الدكتور محمد قدري سعيد المستشار العسكري في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية والدكتور جمال عبد الجواد من مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام وكذلك العقيد الدكتور أيمن عبد العزيز سلامة أستاذ القانون الدولي العام في أكاديمية ناصر العسكرية العليا قدّموا تحليلاً شاملاً ومعمقاً للعقبات السياسية والعسكرية وكيفية مواجهتها في عمليات التدخل لتسوية الصراعات وإحلال السلام. الحملة العسكرية نظراً لما ستثيره الحرب على العراق من حساسيات في العالم الإسلامي، فإن القيادتين العسكرية والسياسية في واشنطن ستحاولان إنجاز الحملة العسكرية في أقصر وقت ممكن. ولذلك فإن هجوماً من الجو ومن الكويتوتركيا يهدف إلى السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي العراقية وتشتيت القوات العراقية ومنعها من شن هجوم مضاد منظم ضد القوات الغازية. القصف الجوي الذي قد يستمر نحو ثلاثة أسابيع سيركّز بشكل أساسي على أنظمة الدفاع الجوي ومواقع أسلحة الدمار الشامل ومراكز قيادة القوات العسكرية ومنازل بعض كبار رجال الحكم ومعسكرات قوات الحرس الجمهوري الخاصة. أما الطرق وخصوصاً الجسور فإنها لن تستهدف، لأن قوات التحالف ستحتاج إليها لضمان تحرك القوات بسرعة من غرب البلاد عبر نهري دجلة والفرات. استهداف رجال الحكم والقوات التي تقوم على حمايتهم وقوات الحرس الجمهوري الخاصة المتمركزة في بغداد سيكون له أهداف سياسية. فإذا أدت عمليات القصف الجوي إلى قتل صدام فإن تغيير النظام يكون قد تحقق من دون تعريض القوات البرية الأمريكية للخطر. كما أن هذا الاستهداف سيكون بمثابة رسالة واضحة إلى قوات الحرس الجمهوري المتمركزة على الطرق الرئيسية الثلاثة المؤدية إلى بغداد ويشجعها على التحرك ضد الحكومة العراقية حتى لا تصبح هي نفسها هدفاً للقصف الأمريكي. إذا لم يُؤد القصف الجوي إلى مقتل صدام أو إلى انقلاب ناجح فإن القصف سيستهدف ألوية المدرعات التابعة للحرس الجمهوري وغيرها من قطاعات القوات المسلحة. بعد تدمير مراكز القيادة والاتصال وضرب القوات المسلحة سيبدأ الهجوم البري ومن المتوقع أن تكون القوات الخاصة قد انتشرت وأخذت مواقعها تحت غطاء القصف الجوي، وستكون مهمتها الأولى هي منع العراق من إطلاق صواريخ على إسرائيل من الصحراء الغربية وكذلك منع القوات العراقية من تدمير آبار النفط. كما أستعرض المشاركون أربعة سيناريوهات محتملة جاءت على النحو التالي: السيناريو الأول: انقلاب عسكري مبكر بعد انطلاق الحملة الجوية أو أثناء دخول القوات الأمريكية للأراضي العراقية الانقلاب العسكري المبكر ليس أمراً محتملاً وخصوصاً أن صدام حسين عيّن كبار القادة العسكريين ممن تربطه بهم علاقات عائلية أو عشائرية. ولكن هذا لا يمنع بعض الجنرالات الطموحين من الحرس الجمهوري من محاولة الإطاحة بصدام وكبار معاونيه. فإن تحرك ألوية من الحرس الجمهوري إلى شمال وجنوببغداد لمواجهة الغزو الأمريكي سيجعل منها هدفاً سهلاً للقصف الجوي الأمريكي، وقد يشجعها ذلك على التمرد على القيادة العراقية والتوجه إلى بغداد للإطاحة بصدام. قد يتزايد التأييد للانقلاب في حال نجاحه ويتمكن قادته من السيطرة على بغداد والقواعد العسكرية المحيطة بها ومن ثم التوجه إلى تكريت. وستطالب قوات الأمن الخاصة والقوات المسلحة بالاعتراف بالأمر الواقع ويقسمون على الولاء للحكومة الجديدة وبالتالي تجنب اندلاع حرب أهلية. قد تنشأ مواجهة دموية بين الحرس الجمهوري وما يتراوح ما بين عشرين وخمسة وعشرين ألفاً من القوات الخاصة في الحرس الجمهوري المدربة والمجهزة لمنع مثل هذا الانقلاب، وسيؤدي ذلك إلى وقوع خسائر بشرية كبيرة بين صفوف العسكريين والمدنيين. أصحاب القرار في واشنطن ولندن يفضلون حدوث مثل هذا الانقلاب المبكر لأنه يعطي الفرصة لهم للقول بأن تصميمهم وإصرارهم أديا إلى هذا الانتصار والتخلص من صدام دون وقوع خسائر بشرية في صفوف قوات التحالف. كما أن التخلص من أسلحة الدمار الشامل سيؤدي في نهاية الأمر إلى رفع الحصار المفروض على العراق. أضف إلى ذلك أن الانقلاب وتغيير النظام من دون غزو أمريكي سيؤدي إلى تخفيف حدّة المعارضة لدى الرأي العام الدولي ويفتح المجال أمام حكومة عسكرية جديدة في العراق لإقامة علاقات جيدة مع أمريكا وتنفيذ مطالبها. إلاّ أن هذا السيناريو سيترك أمريكا والمجتمع الدولي بقدر محدود جداً من التأثير في الحكومة العراقية والمجتمع العراقي ولن تتمكن أمريكاوالأممالمتحدة من تنفيذ إصلاحات سياسية واجتماعية تمنع ظهور صدام حسين آخر في المستقبل. فمن حسنات قيام حكومة عسكرية جديدة في العراق، من وجهة نظر الرئيس بوش، هي قدرتها على تحقيق الأمن والاستقرار في العراق. ولكن تحقيق ذلك سيتطلب من الحكومة الجديدة اللجوء إلى الأساليب نفسها التي كان يستخدمها نظام صدام البعثي والمتمثلة في الاستخدام المفرط للعنف والوصاية على مقدرات العراق واستخدامها لضمان ولاء قطاعات معينة من المجتمع العراقي. قد يؤدي ذلك إلى انتشار مشاعر الخيبة بالأمل وقيام انقلابات عسكرية جديدة. خلاصة القول ان الانقلاب العسكري المبكر يمكن، على المدى القصير، أن يوفر على أمريكا تنفيذ غزو بري وما يكتنف ذلك من مخاطر، ولكن ذلك، على المدى البعيد، سيؤدي إلى المزيد من عدم الاستقرار داخل العراق ومنطقة الخليج. السيناريو الثاني: انقلاب عسكري متأخر عندما تصل القوات الأمريكية إلى ضواحي بغداد الانقلاب العسكري المتأخر قد يكون النتيجة الأكثر احتمالاً للغزو الأمريكي للعراق. لقد طور صدام حسين سلسلة متداخلة من الأجهزة الأمنية ووحدات الحرس الشخصي تتنافس فيما بينها وتتجسس على بعضها، ولذلك فإن إمكانية قيام أي من هذه الأجهزة بانقلاب تبقى ضعيفة جداً. ولكن لا بد من حدوث أمرين لنجاح انقلاب عسكري متأخر: الأمر الأول والأهم هو نجاح الغزو العسكري الأمريكي على الأقل في مراحله الأولى وتحقيق تقدم ملموس باتجاه بغداد، مما يعطي انطباعاً لدى الأجهزة الأمنية وقوات الحرس الخاصة بأن النظام أصبح على وشك الانهيار. أضف إلى ذلك أن ذلك سيؤدي إلى زعزعة تماسك الأجهزة الأمنية وقدرة النظام على السيطرة على القوات المسلحة. سيعطي هذا فرصة للقيام بانقلاب وخصوصاً إذا تحرّكت قوات الحرس الجمهوري باتجاه بغداد بحيث لن يكون هناك من خيار أمام الحرس الخاص بالرئيس إلا القتال حتى الموت دفاعاً عن نظام آيل للسقوط أو الانضمام إلى قوات الانقلاب. السيناريو الثاني سيوفر على بغداد حصاراً طويلاً أو حرب شوارع بين القوات الأمريكيةوالعراقية الموالية لصدام. إلاّ أن النتيجة ستكون محرجة للقوات الأمريكية لأن سيطرتها على معظم الأراضي العراقية سيتركها مسؤولة بشكل مباشر عن معظم الشعب العراقي ولكن دون السيطرة على بغداد التي تضم ما يناهز خمسة ملايين نسمة، ولن تستطيع القوات الأمريكية تجنب إجراء مفاوضات مع الحكام العسكريين الجدد في بغداد الذين سيحكمون البلاد بالطريقة نفسها التي كان يمارسها صدام حسين. ولذلك يمكن للإدارة الأمريكية وبسبب قلّة الموارد والوقت بسبب الضغوط الداخلية في أمريكا أن تكرر ما قامت به في أفغانستان في مرحلة ما بعد طالبان والقبول بالأسلوب القديم للحكم من دون القدرة على إجراء إصلاحات سياسية جذرية. حتى ان قوى المعارضة الموجودة في واشنطن لن تستطيع ضمان الأمن والاستقرار. بعد انسحاب القوات الأمريكية سيفقد العالم اهتمامه بالعراق وستشهد البلاد حالة من الفوضى العارمة وستسيطر النخبة الحاكمة على المقدرات الاقتصادية للبلاد ليصبح الفساد والرشوة والوصاية والعنف الوسائل الوحيدة المتوفرة لتدعيم النظام الجديد. السيناريو الثالث: استمرار أمد الصراع لنحو 12 شهراً وفشل أمريكا في إيجاد حكومة قوية في العراق استمرار المعارك لما يزيد على 12 شهراً من دون تحقيق نصر حاسم ليس احتمالاً وارداً وخصوصاً أن الرئيس بوش هو السياسي الوحيد المشارك في حرب العراق ويعتمد إعادة انتخابه لولاية ثانية على نتائجها. لذلك فإن الرأي العام الأمريكي سيخيّم على هذه الحملة. الرأي العام الأمريكي لن يتحمل حرباً طويلة الأمد تؤدي إلى وقوع أعداد كبيرة من الضحايا في صفوف القوات الأمريكية. ولكن الحرب قد تطول إذا نجحت خطط الدفاع العراقية أو إذا قامت حركات مقاومة تشارك فيها قطاعات واسعة من الجماهير العراقية. تفيد التقارير أن النظام العراقي قام بإنشاء قطاعات مستقلة بقياداتها وعملياتها تحت قيادة ضباط يدينون بالولاء لصدام. كما أن كل من هذه القطاعات يملك ما يكفي من الجنود والأسلحة والذخائر. عندما يبدأ الغزو ستعلن الاحكام العرفية وتصبح كل مقاطعة من البصرة في الجنوب إلى الموصل في الشمال مسؤولة عن الدفاع عن نفسها وإدارة المعركة حسب الظروف والمعطيات دون الرجوع إلى القيادة المركزية في بغداد وذلك تحسباً لانقطاع الاتصالات بينهما. يحاول العراق تحقيق هدفين أساسين من وراء هذه الترتيبات الجديدة. الأول هو عدم اللجوء إلى المواقع الدفاعية الثابتة للحد من الخسائر التي يمكن أن يلحقها القصف الجوي بالقوات المسلحة، والثاني هو جّر القوات الأمريكية إلى خوض معارك في المدن وذلك لإبطاء تقدم هذه القوات باتجاه بغداد. فالحكومة العراقية تدرك أن الرأي العام الأمريكي لا يحتمل أعداداً كبيرة من الضحايا ولذلك فإنها تأمل بأن تؤدي حرب الشوارع إلى قتل ما يكفي من الجنود الأمريكيين لإجبارها على الانسحاب. إذا توقفت العمليات العسكرية الأمريكية قبل تمكنها من دخول بغداد وتغيير النظام فإن النتائج على المديين القصير والطويل ستكون مدّمرة. والإبقاء على حكومة عراقية ضعيفة سيؤدي إلى سيطرة بعض فئات الشعب العراقي أو قواته المسلحة على أجزاء من العراق. فإضعاف النظام من دون وضع نظام بديل قوي سيؤدي إلى انهيار الوضع الأمني في البلاد وربما إلى التقسيم كما حدث في الصومال. وسيترك الانسحاب الأمريكي فراغاً أمنياً يفتح المجال أمام تعاون بعض فئات الشعب مع دول مجاورة مثل تركيا وإيران، الأمر الذي قد يؤدي إلى نشوب صراعات مسلحة بين دول المنطقة للسيطرة على أجزاء من العراق. سيؤدي هذا إلى حالة من الفوضى العارمة وعدم الاستقرار في المنطقة وكذلك إلى نزوح مئات الآلاف من العراقيين للدول المجاورة، وتتعرض سمعة أمريكا وهيبتها في المنطقة والعالم إلى أضرار جسيمة. أما العامل الآخر الذي قد يؤخر تقدم القوات الأمريكية إلى بغداد فهو قيام انتفاضة في جنوب البلاد كما حدث عام 1991م، فالقوات الرئيسة التي شاركت في أحداث 1991م في الجنوب كانت مجموعة من الجنود المنسحبين من الكويت بسبب القصف المكثف الذي تعرضت له من قوات التحالف في غياب القيادة والشعور بأنهم تعرضوا للخيانة وانضم الجنود إلى السكان المحليين في ثورتهم ضد نظام بغداد، إذا ما أدى القصف الأمريكي إلى قيام انتفاضة جديدة ضد النظام فإن القوات الأمريكية ستجد نفسها لا تحارب القوات العراقية وحسب، ولكنها ستحاول فرض النظام على جماهير الشعب وإعاقة تقدمها باتجاه بغداد أيضاً. السيناريو الرابع: حكومة مفروضة بعد الانتصار الأمريكي يبدو هذا السيناريو هو الأكثر احتمالاً. ويمكن القول إن مشاكل أمريكا مع العراق ستبدأ في اليوم نفسه الذي يعلن فيه وقف إطلاق النار. المقربون من الرئيس بوش الأب يقولون إن قراره بعدم مواصلة القتال حتى بغداد عام 1991 كان بسبب عدم رغبته في التورط في السياسة العراقية. بعد السيطرة على العراق سيتوجب على صانعي القرار الأمريكي وحلفائهم أن يقرروا إذا ما كانوا على استعداد لإعطاء الوقت الكافي (من ثلاث إلى عشر سنوات) وتأمين الموارد والكوادر البشرية لمعالجة المشاكل التي تعاني منها السياسة العراقية، أم أنهم سيكتفون بتغيير الأشخاص في رأس السلطة وإطلاق يدهم ليحكموا البلاد كما حكمها النظام السابق. يبدو أن الاحتمال الثاني هو الأقوى وخصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار حالة الركود الذي يعاني منها الاقتصاد الأمريكي وموقف الشعب الأمريكي من وقوع أعداد إضافية من الضحايا خلال ثلاثة أشهر إلى ستة أشهر بعد الغزو ستركز القوات الأمريكية اهتمامها على فرض القانون والنظام ومنع بعض قطاعات الشعب العراقي من القيام بأعمال انتقامية ضد أتباع النخبة الحاكمة السابقة. لقد طلب رئيس هيئة الأركان المشتركة في وزارة الدفاع نشر أعداد كافية من الجنود الأمريكيين لتحقيق هذا الهدف. كما أن القوات الأمريكية ستواجه مهمة صعبة عندما تحاول تجريد الجماعات المسلحة من أسلحتها. أضف إلى ذلك أن نظرة قطاعات واسعة من الشعب إلى القيادات التي تعود إلى العراق للمرة الأولى منذ عام 1958 على أنها عميلة «للغزاة الإمبرياليين» واتهامات «بالعمالة» ستجد قبولاً واسعاً في أوساط الشعب العراقي والاختبار الأساسي الأول لتصميم أمريكا على تسوية الخلافات سيكون في منطقة الأكراد في شمال العراق، حيث تتمتع الميليشيات المسلحة بحكم ذاتي. فعدم تجريد هذه المليشيات من أسلحتها وإعادة دمج شمال العراق بالوطن الأم سيؤدي إلى تبني أمريكا لسياسة الحدّ الأدنى من الإصلاحات. إن نجاح حرب جديدة ضد العراق سيكون بمثابة لحظة حاسمة في بلورة «مبدأ بوش» الذي يحاول تحديد معالم العلاقات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة مع الإدراك الكامل للآثار السياسية للعولمة. لقد استخدمت أمريكا أحداث 11 سبتمبر وما ترتب عليها من نتائج لإعادة صياغة فهم أمريكا لسيادة الدولة في الدول النامية. وتتلخص واجبات هذه الدول من وجهة النظر الأمريكية بمنع الأنشطة الإرهابية على أراضيها وتحقيق شفافية المعاملات المصرفية والتجارية وعدم السعي للحصول على أسلحة الدمار الشامل. في هذا السياق فإن ديناميكيات السياسة العراقية الداخلية ليست الهدف الأول للحرب القادمة، فالنظام العراقي القائم، بالنسبة لإدارة الرئيس بوش، هو مثال لإحدى دول العالم الثالث التي تصر على تحدّي أمريكا. فبالرغم من الغزو والقصف المستمر والعقوبات الاقتصادية القاسية فإنها لا تزال ترفض طلبات أمريكا والمجتمع الدولي. ولذلك فإنه من خلال تنفيذ عملية تغيير النظام في بغداد، فإن واشنطن ترسل إشارة واضحة حول التزامها بمبدأ بوش وكذلك ما يمكن أن تبذله من جهد وتقدمه من تضحيات لتحقيق أهداف سياستها الخارجية ومصالحها القومية. لذلك يمكن القول إنه ليس من المستبعد أن يكون التزام الإدارة الأمريكية بتنفيذ إصلاحات سياسية واجتماعية ومؤسساتية مقتصراً على الحد الأدنى. ستقدم أمريكا الدعم للقادة العراقيين القادرين على حفظ القانون والنظام. ولكن الاهتمام بتحقيق الاستقرار على المدى القصير سيطغى على الآمال الطويلة الأمد لتحقيق الإصلاحات وإقامة نظام ديمقراطي مستقر في العراق. تغيير النظام في العراق سيعطي أمريكا مزيداً من النفوذ في المنطقة والعالم، ولكنه قد لا يؤثر في الديناميات السياسية والاجتماعية داخل العراق. سيحافظ هذا على الوضع القائم في المنطقة، ولكنه سيبقي العراق مصدراً محتملاً للعنف وعدم الاستقرار وأسلحة الدمار الشامل على المديين المتوسط والطويل.