المعارضة التي يشهدها العالم حاليا للحرب الأمريكية المنتظرة ضد العراق لم يسبق لها مثيل في التاريخ ففي أوروبا وصلت المعارضة إلى حد دفع وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد إلى أن يطلق على فرنسا وألمانيا اللتين تقودان المعارضة اسم «أوروبا العجوز» ببساطة هكذا ودون تردد لأنهما خرجتا عن الطاعة لأمريكا. وقال رامسفيلد: إن أغلب الدول الأوروبية مع الولاياتالمتحدة مشيرا الى أن العدد الأكبر من الدول الأوروبية يمثل أوروبا الجديدة التي رمز لها برئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلسكوني الذي كان يستعد لزيارة واشنطن في ذلك التوقيت وأعرب عن أمله أن يكون ثالث أضلاع المثلث «باء» إشارة إلى الحرف الأول الذي تبدأ به أسماء بوش، وبلير، وبيرلسكوني الذي يفترض أنه سيظل خارج السجن في ضوء الملاحقة القضائية له في إيطاليا بسبب اتهامات الفساد التي يواجهها، ويؤكد البيت الأبيض الأمريكي أن إيطاليا ضمن التحالف الذي تقوده أمريكا في اتجاه الحرب ومن الواضح أن بيرلسكوني غير مهتم بنتائج استطلاعات الرأي التي تشير إلى معارضة حوالي ثمانين في المائة من الإيطاليين للحرب. وهذه الأرقام تشير إلى أن الشعب الإيطالي أيضا ينتمي إلى «أوروبا القديمة» ويمكن أن يذهب إلى مزبلة التاريخ إلى جانب فرنسا وألمانيا وغيرها من الدول التي ترفض الحرب وفقا لتصنيف رامسفيلد. أما اسبانيا فهي العضو الثاني البارز في تحالف الحرب أي أنها من أوروبا الجديدة على الرغم من أن 75 في المائة من الشعب ضد الحرب وفقا لاستطلاع الرأي الذي أجراه معهد جالوب الدولي لقياسات الرأي العام. ووفقا للمحلل السياسي الرئيسي لمجلة «النيوزويك» الأمريكية فإن نفس الحقيقة تنطبق بصورة ما على الجزء الأكبر من أوروبا الجديدة وهي الدول الشيوعية السابقة في أوروبا الشرقية التي تميل إلى خدمة المصالح الأمريكية على حساب المصالح الأوروبية ذاتها. فقد أشار هذا المحلل إلى أن ثلثي عدد سكان جمهورية التشيك ضد الحرب في حين أن ربع عدد سكان بولندا فقط هم الذين يؤيدون هذه الحرب حتى في حالة اعتراف المفتشين الدوليين بأن العراق ما زال يمتلك أسلحة دمار شامل. أوروبا الجديدة وقد كشفت أوروبا الجديدة عن حقيقتها في صورة خطاب مفتوح بعثت به إلى صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية يعبر عن تأييد الدول الموقعة عليه للموقف الأمريكي تجاه العراق، ضمت قائمة الموقعين إيطاليا واسبانيا وبولندا والتشيك وسلوفاكيا والدنمارك والبرتغال التي يعارض 53 في المائة من سكانها الحرب تحت أي ظرف في حين ترتفع نسبة المعارضة إلى 96 في المائة في حالة عدم وجود قرار من مجلس الأمن الدولي وبريطانيا التي يعارض 40 في المائة من شعبها الحرب تحت أي ظروف في حين تزيد النسبة إلى تسعين في المائة في حالة قيام أمريكا وحلفائها بالحرب بعيدا عن الأممالمتحدة، وأخيرا المجر التي لم تتوافر بعد نتائج استطلاعات الرأي فيها حول الحرب. باختصار شديد يمكن القول ان أوروبا الجديدة التي يحتفل بها رامسفيلد وصقور الإدارة الأمريكية ليست أكثر من بعض قادة دول يريدون قهر شعوبهم وتجاهل إرادة هذه الشعوب. أوروبا القديمة أما أوروبا القديمة التي كان رد فعلها على إعلان رامسفيلد غاضبا بعض الشيء فهي مجرد «دول مثيرة للمشاكل» وليست دولا عصرية على حد تصريحات رامسفيلد. وقد شرح مجموعة من المعلقين الأمريكيين موقف هذه الدول التي تمثل أوروبا القديمة من تصريحات رامسفيلد ومجرد متابعة الصحافة الأمريكية خلال الفترة الأخيرة سوف نعلم أن الحلفاء الأوروبيين الذين يثيرون ضجر العالم لا يقدرون الاستقامة الأخلاقية للرئيس بوش. والحقيقة أننا كأمريكيين نقول إن أوروبا تشك في نقاء الطبيعة الأخلاقية للرئيس بوش دون أن نفكر في أن رجال الدعاية لدى إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش لهم اليد الطولى في صياغة الصورة التي تحاول الإدارة بيعها لأوروبا. يقال لنا إن هناك انقساما حادا بين «أوروبا القديمة» وهؤلاء الذين نعتبرهم أوروبا الجديدة المثالية والحقيقة أن هناك هدفا أساسيا وراء موقف هذه الدول التي تعتبرها أمريكا العالم الجديد لأن قادتنا يقولون لنا هذا ولكن ماهي طرق إثبات هذه الحقيقة الإضافية التي يمكن لشخص ما أن يبحث عنها؟ هناك تركيزضعيف جدا على الرأي العام في أوروبا الجديدة ويتم التعامل مع موقف الرأي العام الرافض للحرب باعتباره مشكلة تسويق اجتماعي للمنتج السليم الذي يتم بيعه وهو الحرب. والحقيقة أن رغبة قادة دول أوروبا الجديدة في تفضيل واشنطن على شعوبهم «تهدد بعزلة فرنسا وألمانيا» عن باقي أوروبا لانهما يظهران تمسكا واضحا بالاتجاهات الديموقراطية ولكنهما لا يتحدثان عن أوروبا وإنما يتحدثان عن شعوب كل من أوروبا القديمة والجديدة الذين يعترف المعلقون الأمريكيون أنفسهم بأنهم يعارضون بقوة سياسات أوروبا الجديدة. والحقيقة أن البيانات الرسمية وردود الأفعال عليها واضحة تماما فهذه البيانات تبين وبدرجة كبيرة من الوضوح أن قادة هذه الدول الجديدة تميل إلى تجاهل كل قيم الديموقراطية التاريخية. وهناك الكثير من الأدلة الأخرى على ذلك فعندما تشجع المستشار الألماني جيرهارد شرودر واتخذ موقفا معبرا عن موقف أغلبية الناخبين الألمان اعتبره المحللون الأمريكيون فشلا كبيرا للقيادة الألمانية وعلى ألمانيا أن تتجاوز هذا الفشل إذا ما أرادت اللحاق بالعالم المتحضر. فقد كتب المتحدث باسم حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي الألماني المحافظ الذي يبدو أنه يفهم الطبيعة الحقيقية للديموقراطية يقول إن المشكلة مع ألمانيا ليست مشكلة ديموقراطيات النخبة الأنجلو أمريكية ولكن مشكلة ألمانيا هي أن الحكومة تعيش في خوف دائم من الناخبين وهذا يؤدي إلى ارتكاب الحكومة خطأ تلو الآخر. الحالة التركية وتمثل الحالة التركية دليلا أكثر وضوحا على الفكرة التي نعرض لها فالأتراك يعارضون بقوة الحرب حيث تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن حوالي تسعين في المائة من الأتراك ضد هذه الحرب، لذلك فإن الحكومة التركية تحاول أن تعطي المزيد من الاهتمام إلى الشعب الذي انتخبها، فلم ترضخ هذه الحكومة للضغط المكثف الذي تمارسه عليها واشنطن، وهنا نجد أن بعض الأصوات تخرج علينا لتقول إن هذه الحكومة المترددة في الاستجابة للضغوط التي تمارس عليها من أجل تجاهل موقف الناخبين هي حكومة غير ديموقراطية. وقد عبر السفير الأمريكي السابق في تركيا والذي أصبح رجل دولة ومعلقا مرموقا في أمريكا ورتون أبراموفيتز عن هذه الرؤية الأمريكية الجديدة للديمقراطية بقوله إن الرئيس التركي الأسبق تورجوت أوزال كان أكثر ديموقراطية من الحكومة الحالية حيث تجاهل كل الأصوات المعارضة في بلاده التي كانت تطالب ببقاء تركيا بعيدا عن حرب الخليج الثانية عام 1991. وتابع السفير الامريكي قائلا ولكن يبدو أن الديموقراطية تراجعت في تركيا بعد أن أصبحت حكومتها أكثر اهتماما برأي الشعب ويقول ان أمريكا حاليا لا تجد وبكل أسف «أوزال» جديدا يحكم تركيا. ويضيف أنه أصبح من الضروري على الولاياتالمتحدة الأمريكية أن تتدخل من أجل إقامة ديموقراطية يمكن الثقة فيها من خلال الضغط الاقتصادي وغيره من وسائل القهر!!. وهكذا نرى بكل أسف كيف تدعو النخبة الأمريكية الحاكمة إلى الديموقراطية على طريقتها. وهناك البرازيل التي تقدم نموذجا جديدا للممارسة الديموقراطية بين مختلف دول العالم، ففي الانتخابات الحرة الأخيرة التي جرت في البرازيل صوت الأغلبية الساحقة من البرازيليين لصالح سياسات تعارضها مؤسسات التمويل الدولية والمستثمرين وفي مقدمتهم صندوق النقد الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية. وفي السنوات الماضية كانت مثل هذه النتيجة التي أسفرت عنها الانتخابات مؤشرا على اقتراب قيام انقلاب عسكري في البلاد من جانب مجموعة من العسكر كما كان يحدث في البرازيل على مدى الأربعين عاما الماضية. ولكن هذا الأسلوب لم يعد يصلح الآن فشعوب الجنوب والشمال تغيرت ولن تتسامح بسهولة مع مثل هذه المحاولات. عندما كنت على وشك الخروج من المطار تلقيت أسئلة عديدة عن عدم وجود مظاهرات واسعة في أمريكا لمعارضة الحرب، والحقيقة أن المظاهرات المناهضة للحرب سواء في أمريكا أو في غيرها من دول العالم لم يسبق لها مثيل في التاريخ، ولكن هذه المعارضة لم تقتصر هذه المرة على مجرد المظاهرات ولا التجمعات وغيرها من الأحداث العامة، وهناك على سبيل المثال نموذج لنوع مختلف من المعارضة الشعبية للحرب، فقد أصدر مجلس مدينة شيكاغو الأمريكية القرار رقم 46 -1 لمعارضة الحرب لينضم بهذا إلى خمسين مدينة أمريكية أخرى أصدرت قرارات مماثلة. وهناك مواقف مماثلة من جانب قطاعات أخرى مثل المنظمات الدينية والمنظمات الشعبية غير الهادفة للربح، وقبل عدة أشهر أصدرت أكبر جامعة في الولاياتالمتحدة الأمريكية قرارا معارضا للحرب وهي جامعة تكساس التي توجد بالقرب من المزرعة الخاصة للرئيس الأمريكي جورج بوش، ومن السهل أن تتواصل هذه الاحتجاجات. ولكن لماذ هذا الانطباع الشائع لدى النخبة بأن المعارضة التقليدية للحرب ميتة؟ يمكن القول إن مقارنة ما يحدث حاليا بالمعارضة التي كانت قائمة أثناء حرب فيتنام تقدم تفسيرا أوليا لهذه الحالة. ذكرى فيتنام فقد مرت قبل فترة وجيزة الذكرى الأربعين لإعلان إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جون كيندي عن إرسال القاذفات الأمريكية إلى جنوبفيتنام وعن وضع الخطط الأولية لإجبار ملايين الفيتناميين على التجمع في معسكرات خاصة واستخدام المواد الكيماوية لتدمير المحاصيل الزراعية للفيتناميين لكي يتم تجويعهم. والحقيقة أنه لم يكن هناك أي مبرر لمثل هذا العدوان الأمريكي باستثناء بعض التصريحات الحماسية من جانب المسؤولين الأمريكيين مثل الحديث عن الدفاع ضد العدوان الداخلي على الفيتناميينالجنوبيين في فيتنامالجنوبية وهي المهمة التي قام بها الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت جون كيندي وسفيره لدى الأممالمتحدة أدلاي ستيفنسون. ولم تكن هناك معارضة للحرب في ذلك الوقت بل إنها احتاجت إلى سنوات عدة حتى تبلورت هذه المعارضة وأصبحت ذات معنى، وبمرور السنوات أصبح هناك مئات الآلاف من الجنود الأمريكيين يشاركون في الحرب الفيتنامية كقوة احتلال دمرت العديد من المناطق السكنية من خلال قصفها بقسوة بالغة كما امتدت الأعمال العدائية الأمريكية إلى باقي إقليم الهند الصينية. وفي ذلك الوقت كانت معارضة الحرب في صفوف النخبة الأمريكية تقوم على أسس براجماتية نفعية تقول إن الحرب كانت خطأ أصبحت تكلفته عالية جدا بالنسبة للولايات المتحدة. وفي تحول حاد أصبحت الغالبية العظمى من الشعب الأمريكي تعارض الحرب في نهاية الستينيات على أساس أنها خطأ أساسي وغير أخلاقية. ولكن اليوم وعلى عكس الوضع في أوائل الستينيات عندما انطلقت الحرب الفيتنامية دون أي معارضة شعبية تشهد الولاياتالمتحدة حاليا معارضة واسعة للحرب المنتظرة ضد العراق قبل أن تبدأ رسميا. وهذا التحول الجديد يعكس النمو المستمر على مدى السنوات الماضية في عدم الرغبة في التسامح مع أي عدوان على أي شعب آخر وهو واحد ضمن العديد من التغيرات التي أصحبت حقيقة واقعة في العالم. الموقف العالمي وهذا جزء من خلفية الأحداث التي شهدها مؤتمر العولمة المضادة الذي استضافته مدينة بورتو أليغري البرازيلية وجزء من سبب الغيوم التي غطت سماء منتجع دافوس بسويسرا الذي يستضيف سنويا منتدى لكبار رجال المال والسياسة في العالم، والقيادة السياسية مدركة تماما هذه التطورات، وعندما تأتي إدارة جديدة إلى الحكم في الولاياتالمتحدة الأمريكية فإنها تتلقى مراجعة للموقف العالمي تقدمه وكالات المخابرات الأمريكية المختلفة، وهذه المراجعة تكون سرية دائما ولا نعلم عنها شيئا إلا بعد مرور سنوات عليها، ولكن عندما جاء الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب إلى الحكم عام 1988 تم تسريب جزء صغير من هذه المراجعة السرية وهي الفقرة الخاصة بالحالات التي تواجه فيها أمريكا أعداء أضعف منها وهو الشكل الوحيد للقتال الذي يمكن للإنسان أن يفكر فيه. كانت التحليلات المخابراتية تقول انه في الصراعات التي تخوضها أمريكا ضد أعداء أضعف منها كثيرا يجب أن تنتصر أمريكا فيها بصورة حاسمة وسريعة وإلا فإن التأييد الشعبي للإدارة الأمريكية سوف ينهار بسرعة. الدعاية المضللة فالوضع الآن لم يعد كما كان في الستينيات من القرن الماضي عندما كانت الشعوب تتسامح مع الحروب المدمرة لسنوات طويلة قبل أن تظهر معارضة حقيقية لهذه الحرب. فهذا لم يعد قائما الآن. فالحركات المناهضة للحرب نجحت خلال السنوات الأربعين الماضية في تحقيق تأثير حضاري مهم على الشعوب، لذلك فلكي تتمكن أي إدارة أمريكية حاليا من مهاجمة عدو أضعف منها، عليها أن تشن حملة دعائية ضخمة تجعل من هذا العدو خطرا على الوجود الأمريكي ذاته ثم يأتي الاحتفال بالنصر الأسطوري على العدو الرهيب في حين تتعالى صرخات الإشادة بالقادة الشجعان الذين ساقهم القدر لإنقاذ الأمة الأمريكية من الدمار في الوقت المناسب، وهذا هو السيناريو الذي يجري حاليا مع العراق. وإذا كانت استطلاعات الرأي تشير إلى أن التأييد الشعبي للحرب المنتظرة ضد العراق في أمريكا يفوق هذا التأييد في أي مكان آخر من العالم فإن أرقام هذه الاستطلاعات مضللة، فمن المهم أن يظل في عقل الأمريكيين حقيقة أن الولاياتالمتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا يسبها فقط صدام حسين ولكنه يخيفها أيضا، ولهذا فإن الحملة الإعلامية التي تديرها الإدارة الأمريكية تردد باستمرار أنه إذا لم نوقف صدام حسين اليوم فسوف يدمرنا غدا. وربما يكون الدليل القادم الذي ستخرج به علينا الإدارة الأمريكية لتقول أن صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل هو سحابة الفطر الناجمة عن قنبلة نووية يلقيها العراق فوق مدينة نيويورك على حد قول مستشارة الأمن القومي الأمريكي كونداليزا رايس. الغريب أن أيا من الدول المجاورة للعراق لا يشعر بأي قلق برغم كراهيتهم للطاغية القاتل الذي يحكم في بغداد، ربما لأنهم يعلمون أنه نتيجة لسنوات طويلة من العقوبات التي يعاني منها العراق جعلت الغالبية العظمى من العراقيين يعيشون على حد الكفاف كما تقول منظمة الصحة العالمية، وأن العراق قد أصبح واحدا من أضعف الدول في المنطقة في ظل إنفاق اقتصادي وعسكري يقل عن انفاق الكويت التي يصل عدد سكانها إلى أقل من عشرة في المائة من عدد سكان العراق ويقل بصورة كبيرة عن الدول المجاورة الأخرى، ولكن الأمر مختلف تماما من وجهة النظر الأمريكية التي تصور العراق كقوة مخيفة تهدد الأمن القومي لأقوى دولة في العالم، ففي قرار الكونجرس الذي صدر في أكتوبر الماضي ويفوض الرئيس الأمريكي باستخدام القوة ضد العراق قال الكونجرس إنه يترك للرئيس استخدام القوة من أجل الدفاع عن الأمن القومي الأمريكي ضد التهديد المستمر الذي يمثله العراق. وهنا يجب أن يرتعد الأمريكيون خوفا أمام هذا العدو الخطير في حين أن جيرانه يحاولون تقريبا إدماجه في المنطقة بما في ذلك الدول التي هاجمها صدام حسين نفسه مثل الكويتوإيران في الوقت الذي كان فيه صدام هذا صديقا وحليفا لهؤلاء الذين يسيطرون على مقاليد الأمور في واشنطن حاليا والذين زودوه قبل سنوات بكل ما كان يحتاج إليه من مساعدات بما في ذلك وسائل تطوير أسلحة الدمار الشامل في الوقت الذي كان فيه أكثر خطورة مما هو عليه الآن. عنصر الخوف أخطر وسيلة لحشد التأييد للحرب في الولاياتالمتحدة هو المبالغة في عنصرالخوف وهو عنصر يتمتع بفعالية متفردة لدى الأمريكيين، أما العنصر الثاني فهو الإيحاء بوجود دعم عام للجوء لخيار الحرب في باقي أنحاء العالم، ومع ذلك فمن المتوقع أن تمتد المعارضة للحرب إلى المؤسسات الحاكمة أيضا. وقد تضمن الإصدار الجديد من مجلتين رئيسيتين للسياسة الخارجية في الولاياتالمتحدة مقالين بقلم اثنين من أهم خبراء السياسة الخارجية يعارضان الحرب. ففي المجلة التي تصدرها الأكاديمية الأمريكية للآداب والعلوم ظهر مقال موسع يعرض كاتبه أسس موقف الإدارة الأمريكية الحالية من الحرب بكثير من التفصيل ثم يفند كل أساس من هذه الأسس، ومن بين التحليلات المحترمة التي نشرتها المجلة تحليلا قالت إنه بقلم أحد كبار الخبراء في معهد كارنيجي لأبحاث السلام الدولي والذي حذر من أن الولاياتالمتحدة الأمريكية ستصبح مدمرة لنفسها وللجنس البشري كله في ظل قيادتها الحالية. والحقيقة أن ما يحدث حاليا غير مسبوق، ويجب أن نعترف أن هذه الانتقادات تميل إلى المحدودية، وهي تعبر عن قلقها بشأن الأخطار المحتملة على الولاياتالمتحدة الأمريكية وحلفائها، ولا تضع مثل هذه التحليلات المعارضة للحرب الآثار المحتملة لهذه الحرب على العراقيين أنفسهم، فالأممالمتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية تحذر من أن مثل هذه الحرب تمثل تهديدا خطيرا للملايين من سكان هذا البلدالذي يعيش أغلب سكانه على حد الكفاف منذ سنوات نتيجة لحرب مدمرة عام 1991استهدفت منشآت البنية الأساسية به وأكثر من عشر سنوات من العقوبات الاقتصادية المدمرة أسفرت عن مقتل مئات الآلاف من العراقيين الأبرياء وعرقلت أي محاولات لإعادة بناء ما دمرته حرب 1991 في الوقت الذي أدت فيه هذه الظروف إلى تقوية قبضة طاغية بغداد صدام حسين الذي يحكم العراق. كما أن هذه الانتقادات الموجهة لحديث الحرب لم تتطرق إلى آثار الأحاديث الحماسية للإدارة الأمريكية على الديموقراطية والحريات المدنية وهو أمر يثير الاهتمام أيضا. ربما يمكن تصور أن مثل هؤلاء المنتقدين يعتقدون أن مثل هذه الأحاديث تستهدف المفكرين وكتاب الرأي في وسائل الإعلام الذين لا يفترض أن يلاحظوا ان الاندفاع نحو الحرب يرافقه عداء كبير للديموقراطية تماما كما يفترض أنهم سوف ينسون السجل الأسود لهؤلاء الذين يقودون هذه الحرب بالنسبة للديموقراطية. بين العراق والقاعدة لذلك لم تكن مفاجأة على الإطلاق عندما أبلغت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية الكونجرس في أكتوبر الماضي أنها تعلم عدم وجود أي علاقة بين العراق وتنظيم القاعدة الإرهابي ولكن يمكن أن يؤدي أي هجوم على العراق إلى انطلاق موجة جديدة من الهجمات الإرهابية ضد الغرب عموما وبوسائل عديدة، فمثل هذا الهجوم يمكن أن يستفز جيلا جديدا من الإرهابيين لكي ينتقموا من الغرب وربما يؤدي إلى قيام العراق نفسه بشن عمليات إرهابية. وقد انتهت لجنة رفيعة المستوى تابعة لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكية إلى التحذير من أن حربا قادمة ضد العراق يمكن أن تؤدي إلى وقوع عمليات إرهابية أسوأ من هجمات الحادي عشر من سبتمبر وقد تستخدم فيها أسلحة دمار شامل داخل الولاياتالمتحدة الأمريكية نفسها. والحقيقة أن مثل هذه التحذيرات ليست جديدة فقد سبق للكثير من المحللين أن حذروا من عمليات إرهابية ضد المصالح الأمريكية قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر بوقت طويل. ليس هذا فحسب بل إن أي حرب ضد العراق يمكن أن تؤدي ليس فقط إلى المزيد من الإرهاب وإنما ايضا إلى انتشار أسلحة الدمار الشامل بصورة أكبر لسبب بسيط وهو أن الدول المحتملة التالية لتكون هدفا للحرب الأمريكية بعد العراق سوف تدرك أن الوسيلة الوحيدة أمامها لردع الولاياتالمتحدة - التي تعد أقوى دولة في تاريخ البشرية- هي أن يكون لديها ترسانة من الأسلحة التي تستطيع بها تهديد أمريكا والعالم أجمع. والحقيقة أن الصقور أنفسهم في الإدارة الأمريكية يحذرون من أن الحرب ضد العراق يمكن أن تؤدي إلى كارثة انتشار أسلحة الدمار الشامل، فهؤلاء الصقور يدركون أنه إذا كان نظام صدام حسين يمتلك أسلحة بيولوجية أو كيماوية فهو يحتفظ بها تحت السيطرة الصارمة، كما يدركون أنه لن يلجأ إلى مثل هذه الأسلحة إلا كخيار أخير في حالة تعرضه للهجوم، وربما لا يفكر صدام حسين تحت أي ظرف في تقديم مثل هذه الأسلحة إلى تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن خوفا من رد فعل هذا التنظيم ليس ضد العالم فقط ولكن ضد نظام البعث الحاكم في العراق نفسه. ولكن ماذا بعد أن ينهار نظام صدام حسين والمجتمع العراقي تحت ضربات الهجوم الأمريكي وفقدان السيطرة على ترسانة أسلحة الدمار الشامل؟ في هذه الحالة يقول خبراء الإرهاب أنه ستتم «خصخصة» أسلحة الدمار الشامل العراقية وستظهر سوق لهذه الأسلحة غير التقليدية لن تجد أي صعوبة في إيجاد المشترين، وهذا سيناريو يمثل كابوسا أسود حتى لهؤلاء الصقور الذين يقرعون طبول الحرب في واشنطن، فحتى قبل أن تبدأ إدارة الرئيس بوش في دق طبول الحرب كانت هناك تحذيرات عديدة من أن روح المغامرة التي تدير بها هذه الإدارة السياسة الخارجية الأمريكية سوف تؤدي إلى انتشار أسلحة الدمار الشامل والإرهاب كوسيلة من وسائل ردع القوة العظمى الوحيدة في العالم ببساطة. وحتى الآن تقدم أمريكا للعالم درسا قبيحا وخطيرا وهو أنه إذا أردت أن تحمي نفسك من الأمريكيين يجب أن تحذو حذو كوريا الشمالية وتمتلك قدرات عسكرية كبيرة بما في ذلك أسلحة الدمار الشامل وإلا فسوف يدمرك الأمريكيون في إطار استراتيجيتهم التي تثير فزع ليس فقط الضحايا التقليديين من دول العالم الثالث وأوروبا القديمة ولكن أيضا تثير فزع نخبة السياسة الخارجية الأمريكية نفسها التي تدرك أن تعهد الولاياتالمتحدة بتنشيط المواجهات العسكرية من أجل تحقيق سيادة أمريكية مطلقة سوف يؤدي إلى المزيد من المخاطر التي تهدد أمريكا ويجعلها أقل أمنا كما جاء في إحدى المطبوعات المرموقة في السياسة الخارجية الأمريكية. ويبدو أن مسألة انتشار الإرهاب أو حتى أسلحة الدمار الشامل لا تشغل بال واضعي السياسة في واشنطن حاليا في ضوء أولوياتهم الخاصة، ربما ليس من الصعب معرفة السبب الحقيقي الذي لا يجعل من مثل هذه الأخطار أمورا ذات أهمية كبيرة بالنسبة للإدارة الأمريكية الحالية، وقد برزت خطورة هذه التهديدات بصورة كبيرة في الاجتماع الذي استضافته العاصمة الكوبية هافانا في أكتوبر الماضي بمناسبة الذكرى الأربعين لأزمة الصواريخ الكوبية، وقد شارك في هذا الاجتماع خبراء من روسياوالولاياتالمتحدةوكوبا، وعلى الرغم من أن صناع السياسة الأمريكية أدركوا في ذلك الوقت أنهم امتلكوا مصير العالم في أيديهم فإن بعض المعلومات التي ظهرت في لقاء هافانا كانت مخيفة بالفعل. كارثة نووية فقد علمنا من هذا اللقاء ان العالم نجا من كارثة نووية أثناء أزمة الصواريخ الكوبية قبل أربعين عاما بفضل قائد الغواصة الروسية فاسيلي أرخيبوف الذي رفض تنفيذ أمر بإطلاق صواريخ نووية تجاه أهداف أمريكية عندما تعرضت الغواصات السوفيتية لهجوم من جانب المدمرات الأمريكية بالقرب من الخط الفاصل الذي كان قد أعلنه الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت جون كيندي. فلو أن القائد أرخيبوف قد نفذ الأمر وأطلق صواريخ غواصته النووية فإن الأمريكيين كانوا سيردون بالمثل لتبدأ حرب نووية يمكن أن تدمر نصف الكرة الشمالي كما كان يحذر الرئيس الأمريكي الأسبق داويت إيزنهاور، والحقيقة أن الكشف عن هذه الحقيقة جاء في توقيت مناسب تماما بسبب الظروف الحالية، فقد كانت جذور أزمة الصواريخ الكوبية هي عملية إرهابية دولية من جانب الولاياتالمتحدة تهدف إلى تغيير نظام الحكم في كوبا، والحقيقة أن كلا المفهومين «الإرهاب الدولي» أو «تغيير نظم الحكم» يحتلان مساحة واسعة على الساحة الدولية اليوم. فالهجمات الإرهابية الأمريكية ضد كوبا بدأت بعد وصول فيديل كاسترو إلى الحكم بفترة قصيرة ثم تزايدت هذه الهجمات بعد تولي جون كيندي حكم أمريكا الأمرالذي أثار قلق الكوبيين من احتمال إقدام أمريكا على غزو بلادهم كما اعترف بعد ذلك روبرت ماكنمارا، ولكن كيندي استأنف هذه الهجمات الإرهابية مرة أخرى بعد انتهاء أزمة الصواريخ الكوبية بفترة قصيرة. وبغض النظر عن أي تقييم لسلوكيات المشاركين في أزمة الصواريخ الكوبية فإن ما تم الكشف عنه مؤخرا يوضح وبصورة لا تقبل التشكيك حجم الخطر المخيف الذي يمكن أن تنطوي عليه شن حرب ضد عدو أضعف كثيرا من أمريكا بهدف تغيير نظام الحكم فيه، فقد كان الخطر يهدد وجود أمريكا بالفعل ودون أدنى مبالغة. مصير الشعب العراقي والحقيقة أنه لا يمكن لأي إنسان أن يتنبأ بمصير شعب العراق في حالة الحرب، لا وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ولا وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، ولا هؤلاء الذين يدعون أنهم خبراء في الشؤون العراقية، فالاحتمالات تمتد من التحذيرات المروعة التي تحذر منها وكالات الإغاثة الدولية إلى مجرد عدد قليل من الخسائر كما يروج رجال دعاية بوش. لا أحد يعرف ما ينتظر الجميع، وهناك أسباب عديدة تدفع أي إنسان طبيعي يعارض مجرد التهديد بالقوة أو استخدام هذه القوة سواء في الحياة الشخصية او في الشؤون الدولية إلا إذا كانت هناك أسباب قوية تبرر اللجوء إلى مثل هذه القوة، وبالتأكيد فإن أحدا لم يقدم حتى الآن مثل هذه الأسباب في الأزمة الحالية. ولهذا فإن المعارضة لخطط الحرب التي يتم وضعها في واشنطن أو لندن بلغت حدا غير مسبوق. وقد كان توقيت الحملة الدعائية التي أطلقتها لندن وواشنطن ضد العراق مكشوفة جدا لدرجة جعلت منها موضوعا للنقاش وأحيانا للسخرية، فقد بدأت الحملة في سبتمبر الماضي، وقبل ذلك كان صدام حسين شخصا سيئا ولكنه لا يمثل تهديدا حقيقيا لوجود أمريكا، وفي أول سبتمبر ظهرت فكرة الخطر النووي الذي يمثله العراق والذي تمت الإشارة إليه بسحابة الفطر النووي، ومنذ ذلك الحين أصبح ما بين ستين وسبعين في المائة من الشعب الأمريكي يخاف من احتمال أن يهاجم صدام حسين أمريكا. وقد كتب كبير المحللين السياسيين في وكالة يونايتد برس إنترناشيونال الأمريكية للأنباء يقول: إن الحتمية التي تحدث عنها بوش في أكتوبر الماضي للتحرك السريع لمواجهة العراق لم يكن لها أي علاقة بأي شيء قاله بوش نفسه خلال الشهرين السابقين، ويصل هذا المحلل إلى نتيجة أكثر وضوحا فيقول: إن سبتمبر كان يمثل انطلاق المعركة الانتخابية للتجديد النصفي للكونجرس الأمريكي، ويضيف أن الإدارة الأمريكية كانت تسعى إلى زيادة نفوذ سياسة المغامرة الدولية التي أطلق عليها بوش استراتيجيات الضربات الوقائية، وكانت هذه الإدارة في حاجة إلى إقناع الشعب الأمريكي سياسيا بهذه الاستراتيجية من خلال التركيز على المواجهة مع العراق، فعندما كانت المناقشات تدور حول القضايا الداخلية كان بوش ورفاقه يخسرون المزيد من الأرض كنتيجة طبيعية للسياسات الداخلية لهذه الإدارة التي تعطي المزيد من المزايا للأغنياء على حساب الغالبية العظمى من الأمريكيين. لذلك فإن هذه الإدارة تعتمد على إشغال الأمريكيين بالخوف من الإرهاب والهجمات الإرهابية بعيدا عن القضايا الداخلية. ولكن عندما لا توجد أي هجمات إرهابية جديدة ولا مؤشرات قوية على وجود تهديد حقيقي فإن الحاجة تصبح ملحة للحديث عن خطر كبير ليس مجرد تنظيم القاعدة ولكن هذه المرة يكون العدو دولة ذات قوة عسكرية لا بأس بها وهي العراق، والحقيقة أن مثل هذه الملاحظات أشار إليها العديد من المحللين الآخرين، وقد يبدو الأمر مقنعا لأشخاص مثلنا يمكنهم فقط الاستشهاد بأقوال الاتجاه العام بدلا من تقديم تحليلات مثيرة للجدل، فالمحلل الذي يعمل في معهد كارنيجي الذي اشرت إليه سابقا يكتب قائلا: إن بوش وشركاه يتبعون استراتيجية كلاسيكية وعصرية للجناح اليميني في الحاشية الحاكمة التي تحول السخط الجماهيري إلى حالة وطنية من خلال بث حالة من الخوف من عدو يعتزم تدمير البلاد، وهذه الاستراتيجية ذات أهمية كبرى بالنسبة لهؤلاء اليمينيين المتطرفين الذين يضعون السياسة الخارجية الأمريكية في واشنطن حاليا على أمل تطوير خطتهم المعلنة لإنفراد أمريكا بالسيطرة على العالم من خلال تفوق عسكري مطلق في الوقت الذي تنفذ هذه المجموعة سياسات داخلية ضد مصالح الغالبية العظمى من الشعب الأمريكي، وهذه الاستراتيجية نجحت بالكاد في الانتخابات الماضية. ويقول المحللون إن نتائج هذه الانتخابات تشير إلى أن الناخبين كانوا ضد السياسات الحكومية بالنسبة للقضايا الداخلية لكنهم تخلوا عن هذه المعارضة أمام المخاوف المتعلقة بالأمن القومي مما أدى إلى اختيار الشخص القائم في السلطة الذي يظهر في صورة راعي البقر «الكاوبوي» الشجاع الذي يأتي لإنقاذ الشعب الأمريكي في الوقت المناسب. إثارة مخاوف الشعوب ولكن التاريخ يؤكد أن من السهل على الزعماء إثارة مخاوف الشعوب ولكن عواقب مثل هذه الاستراتيجية لا تكون جذابة في معظم الأوقات. وهذه وسيلة طبيعية لجذب الانتباه بعيدا عن حقيقة أن خفض الضرائب على الأغنياء الذي يقوم به بوش وغيره من الخطط الاقتصادية تنسف مصالح الغالبية العظمى للأمريكيين حاليا ولأجيال عدة قادمة. من المؤكد انه عندما تبدأ معركة الانتخابات الرئاسية القادمة عند مخططي حملة بوش لن يسأل الناخبون عن صناديق المعاشات التي تقلصت ولا عن الوظائف التي تراجع عددها ولا عن الرعاية الصحية التي تدهورت وغير ذلك من القضايا الاجتماعية الداخلية، وبدلا من ذلك سوف يركز هؤلاء المخططون على الإشادة بالقائد البطل الذي أنقذ الشعب الأمريكي من التدمير على يد عدو قوي وان هذا القائد البطل يواصل جهوده لمواجهة قوة أخرى تعتزم تدمير أمريكا، وقد تكون هذه القوة التالية هي إيران أو إحدى دول أمريكا اللاتينية، فالخيارات عديدة أمام الإدارة الأمريكية ما دامت مثل هذه الأهداف ضعيفة بالنسبة للقوة الأمريكية، وهذه الأفكار تمثل الإصدار الثاني بالنسبة لأقطاب الإدارة الأمريكية الحالية حيث يعيدون تدوير هذه الأفكار التي ظهرت على يديهم أيضا في عهد إدارة الرئيس الأسبق رونالد ريجان، فهم يعيدون تنفيذ سيناريو مألوف وهو دفع البلاد إلى عجز كبير في الموازنة بحيث يستطيعون تدمير برامج الخدمات الاجتماعية وإعلان الحرب على الإرهاب كما فعلوا تماما في عام 1981 والبحث عن شرير بعد شرير حتى يستطيعوا إخافة الشعب الأمريكي باستمرار لكي يرضخ لسياسات الإدارة. الدول المارقة! وفي الثمانينيات كانت ليبيا هي الدولة المارقة والتي أرسلت بعض رجالها إلى شوارع واشنطن لاغتيال قائدنا رونالد ريجان، ثم كان الجيش النيكاراجوي الذي كان على بعد يومين فقط من ولاية تكساس مما اضطر ريجان إلى إعلان حالة الطوارىء القومية، ثم شن حملة جوية لغزو جزيرة جرينادا لأن الروس كانوا يعتزمون استخدامها لقصف أمريكا إذا ما تمكن الروس من تحديد موقع هذه الجزيرة على الخريطة. وقد بلغ التلفيق بالرئيس الأمريكي رونالد ريجان في هذا السياق حدا جعله يعلن أن «الإرهابيين» العرب يريدون قتل الأمريكيين في أي مكان من العالم وأن الرئيس الليبي معمر القذافي يريد إزالة أمريكا من على الخريطة، وأن مهربي المخدرات في أمريكا اللاتينية يريدون تدمير الشباب الأمريكي وأن.. وأن.. وفي هذه الظروف كانت القيادة السياسية قادرة على تنفيذ سياسات داخلية ذات عائد اقتصادي ضعيف بصورة عامة وتحقق الثروة لقطاعات ضيقة في الوقت الذي تلحق أضرارا بالغة بالغالبية العظمى من الشعب، وهذا السيناريو يجري تنفيذه حاليا من جانب إدارة بوش مرة أخرى بكل تفاصيله مع اختلاف الأشخاص والأسماء. ذرائع الحرب وبالطبع هناك أسباب عديدة أخرى لإصرار بوش ورجاله على حرب العراق غير مجرد الأسباب الداخلية، فقد وفرت هجمات الحادي عشر من سبتمبر الفرصة والظرف المناسب لتنفيذ خطط قديمة تهدف إلى السيطرة على ثروة العراق النفطية التي تعد مكونا أساسيا من مكونات موارد منطقة الخليج العربي التي وصفتها وزارة الخارجية الأمريكية عام 1945 بأنها مصدر هائل للقوة الاستراتيجية وواحدة من أعظم الجوائز المادية في تاريخ العالم. بل إن المخابرات الأمريكية تتنبأ بأن تصبح موارد هذه المنطقة اكثر أهمية خلال السنوات القادمة، وهذا موضوع لم يتم التطرق إليه من قبل، ولكن نفس المخابرات تتوقع أن تعتمد على إمدادات أكثر أمنا في النصف الغربي من الأرض وغرب إفريقيا. نفس الوضع كان قائما في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فقد حققت أمريكا ومعها بريطانيا أرباحا كبيرة من السيطرة على «الجائزة المادية» بعد الحرب العالمية الثانية ثم تحولت السيطرة على المصدر الضخم للقوة الاستراتيجية إلى انفراد أمريكي بالسيطرة على العالم كله وهو الهدف الذي أصبح الحديث عنه علانيا ويثير خوف الكثير من دول العالم بما في ذلك دول أوروبا القديمة والمؤسسة المحافظة في أمريكا، والحقيقة أن النظرة الواقعية للمستقبل تعطي صورة مختلطة، فهناك الكثير من الأسباب المشجعة ولكن في نفس الوقت مازال هناك طريق شاق يجب مواصلته. (*) استاذ علم اللغة بمعهد ماسشوستس للتقنية وداعية سلام امريكي * المصدر - زد نت ( خدمة الجزيرة الصحفية)