يقال إنه: «هروباً من القراءة إلى التفكير فقأ ديموقريطس Democritus عينيه حتى يتوقف عن القراءة، ومن ثم يستطيع أن يفكر». قرأت هذه العبارة فاستوقفتني كثيراً. من أجل أن يفكر فقأ ديموقريطس عينيه. أإلى هذا الحد كان التفكير يشغل بال الإغريق والقدماء ممن أصبح لهم شأن فيما بعد، أيعقل أن يقدم شخص ما على ما أقدم عليه ديموقريطس! كيف يمكن له أن يفكر وهو لا يرى ولا يستطيع أن يقرأ بعد ذلك؟ بل كيف استطاع أن يضحي ببصره وهل هناك شيء يستحق مثل هذه التضحية الكبيرة؟ وهل اختزل واحتفظ عقله كل ما يستحق النظر إليه ولم يعد بحاجة لبصره بل هو بحاجة لعقله؟! أسئلة كثيرة محيرة تقفز إلى الذهن عند النظر في فعلة ديموقريطس هذه، هل يزداد التفكير ويكون أكثر عمقاً وأبعد أفقاً عندما يفقد الشخص بصره ويكون في شبه عزلة عن الحياة الاجتماعية وعما حوله؟وهل تعمد فقد البصر يماثل فقده بطريقة غير مقصودة «طبيعية»؟ وهل كل من فقد بصره يفكر كما أراد ديموقريطس أن يفكر؟ وهل المبصر لا يرتقي تفكيره إلى المستوى الذي أراده ديموقريطس عند تأمله للطبيعة والبيئة من حوله أو عند قراءته للكتب واطلاعه على التراث الحضاري للإنسانية بشكل عام؟ ما أريد الوصول إليه من هذه المقالة هو الإشارة إلى أهمية التفكير والتأمل في حياة الأمم والشعوب وخاصة الغربية وما تمخض عن ذلك من ابتكارات واختراعات وإنجازات وإعجاز يكاد العاقل يفقد عقله عندما يتأملها بعمق. أين نحن من التفكير؟! وهل نحن شعب مفكر أم مقلد أم أن تفكيرنا لا يتجاوز حداً معيناً؟ لا أقصد بالطبع التفكير العادي أو السطحي إنما التفكير العميق والمنتج أو المثمر «التفكير الإبداعي أو العلمي أو الاختراعي» الذي يتمخض عنه إبداع وابتكار أو اختراع رائد يخدم البشرية كتلك التي أحدثت نقلات هائلة في المجتمع البشري مثل الآلة البخارية، الطباعة، الذرة، صناعة الدواء الكيميائي، الكهرباء، الهاتف والفاكس، الكمبيوتر، السيارة، والطائرة.. الخ. فما نحن فيه اليوم من حضارة وفكر راقٍ ما هو إلا نتاج أفكار وخبرات تراكمت على مر العصور السابقة «وإن كان الفضل الأكبر ينسب للعصر الحديث: عصر النهضة الصناعية في أوروبا وما تلاه»، فكل فرد أو مجتمع يبدأ من حيث انتهى الآخرون ويضيف إلى الفكرة أو الاختراع ما يضيف ويأتي آخرون ويضيفون إليه وهكذا استمرت العملية ولا تزال وستستمر إلى أن يشاء الله. إن المشكلة في نظري «أي مشكلة» هي أساس التفكير وبالتالي التطور والابتكار أو الاختراع «فالحاجة أم الاختراع» كما يقال: وكل اختراع لم يكن سوى فكرة أو خاطرة في الأصل ثم تطورت هذه الفكرة حتى أصبحت مخترعاً شيئاً ملموساً ومفيداً للإنسانية. فالبداية يمكن أن تكون كالتالي: تأمل «ظاهرة/مشكلة»، خاطرة أو فكرة، تنظير، تجريب أو تنفيذ، نتيجة جيدة، قرار، تطبيق وتعميم، متابعة وتصحيح وتطوير. فابتكار الأدوية مثلاً سواء في الماضي العتيق أو في العصور الحديثة ينسب إلى سبب أو مشكلة واحدة لا غير هي الشعور بالألم.. وبالتالي فقد لذة الحياة أو الوفاة ولأن الله منح الإنسان وميزه بالعقل بدأ يستخدم هذا العقل لتسيير أمور حياته «المعرفة قوة» فالإنسان القديم بدأ يفكر في كيفية حماية نفسه «وقاية» من الأمراض ومحاولة التغلب عليها «علاج» من خلال استعماله للأعشاب وما شابهها، ومن البيئة وحيوانات الغابة المفترسة حتى استطاع الانتصار عليها. ولو أخذنا مثالاً آخر في وقتنا الحاضر نجد أن الباحثين العلماء والمفكرين ينطلقون من مشكلة ما قدت تواجههم في العمل أو قد تستشف من الواقع أو ظاهرة تؤرقهم، ومن هذا المنطلق يبدأ الباحث العالم أو المفكر في إعمال عقله «التفكير» كمحاولة لإيجاد حلول لهذه المشكلة أو تفسير لهذه الظاهرة. فالمفكر شخص كرس جهده و وقته لحل مشكلة ما والبحث في مسبباتها ومحاولة إيجاد حلول ناجحة لتفاديها أو معالجتها. فالطبيب المفكر يبحث في الأمراض وأسبابها ويمضي سنوات طويلة في المختبرات الطبية وقراءة كتب علم الأمراض لعله يصل إلى لقاح لهذا المرض كما هو الحال للبحث الدؤوب عن مصل مضاد لمرضى نقص المناعة «الايدز» أو السرطان في الوقت الحاضر. كما أن الاجتماعي المفكر يبحث وبشكل جاد في المشكلات الاجتماعية المستجدة في المجتمع ويحاول ايجاد الحلول الفاعلة لها فاكتشاف المشكلة في العادة يكون أمراً سهلاً مقارنة باكتشاف أو الوصول إلى حلول مقنعة لتلك المشكلة، فمشكلة المخدرات أو الجرائم أمور لا تخفى على الباحثين والاجتماعيين والأطباء ورجال الأمن وغيرهم لكن إلى هذا اليوم لم يتوصل عالم أو باحث أو مفكر في حل نهائي لتخليص المجتمع من معضلة الإجرام أو المخدرات، كما أن التربوي المفكر يبحث في أساليب فاعلة لتطوير التعليم ومعالجة ما يستجد من مشكلات تربوية، كذلك الفيلسوف أو المفكر ينظر إلى الأمور وقد يرى أو يستشف ما لا يراه غيره، فنيوتن مثلاً أول من لاحظ سقوط الثمرة إلى أسفل الشجرة «الجاذبية» ولم تذهب إلى أي اتجاه آخر، ورغم مرور هذه الحالة وتكرارها على البشر ملايين المرات لكن لم يفطن أحد للسبب العلمي في ذلك. ومندل أول من فطن لقوانين الوراثة والجينات، وأرسطو أول من اكتشف وأعلن جهل الإنسان بنفسه رغم ادعائه المعرفة، وكذلك الحال في الاختراعات أو الابتكارات أو الظواهر الأخرى لا يفطن لها أو لا تثير انتباهاً إلا القلة القليلة من البشر وهم الموهوبون والعباقرة والمبدعون الذين كرسوا طاقاتهم وأوقاتهم للتأمل في الطبيعة وأسرارها وللبحث الدؤوب والسعي للوصول إلى الحقيقة ولا شيء سواها. وإجابة للتساؤل: متى يفكر الإنسان؟ أو بمعنى أفضل متى يعمل العقل؟ نجد أنه في العادة يبدأ عقل الإنسان العادي في التفكير منذ اليقظة وحتى المنام لمواجهة الأمور الحياتية والروتينية المختلفة كما أنه يستحث عقله للتفكير عندما تواجهه مشكلة ما أو عندما يريد القيام بإنجاز عمل ما غير متوقع أو لم يتعود إنجازه أو عندما يوجه إليه سؤال ما غير متوقع أو لحل مسألة رياضية أو حسابية أو ذهنية في هذه الحالات يبدأ يستحث عقله على التفكير لحل المشكلة أو لإنجاز العمل المعقد أو للإجابة عن السؤال أو لحل المسألة الرياضية أو الحسابية أو الذهنية. أما الدرجة الثانية من التفكير فهي لا شك تكون أعمق «التفكير الإبداعي» وتنطلق من التأمل بظاهرة أو أكثرمما يحيط بالإنسان أو بأي ظاهرة طبيعية أو كونية أو حتى التأمل في النفس البشرية. وقد يكون أساس الفكرة خاطرة أو إلهاماً أونحوه دون ترتيب مسبق أو استعداد لذلك. وقد يكون أساس الفكرة مشكلة عويصة تواجه الفرد أو المجتمع ولا بد من المعالجة وإيجاد الحلول لها. فالتفكير يعرف بأنه «عبارة عن سلسلة من النشاطات العقلية غير المرئية التي يقوم بها الدماغ عندما يتعرض لمثير يتم استقباله عن طريق واحدة أو أكثر من الحواس، بحثاً عن معنى في الموقف أو الخبرة». ويبدأ الإنسان عادة با لتفكير عندما لا يعرف ما الذي سيعمله بالتحديد. والتفكير هو إحدى العمليات العقلية التي يستخدمها الفرد في التعامل مع المعلومات. أما بياجيه فيعرفه «من خلال تعريفه للفكر بأنه تنسيق العمليات والعملية تشبه القاعدة ا لتي تعد نوعاً من الصيغ الفكرية ومن ميزاتها أنها قابلة للعكس تماماً». ومن الممكن التمرس على عملية التفكير من خلال دورات تدريبية ومهارات معينة، وهذا ما يحدث في الدول المتقدمة من خلال أنظمتها التعليمية المتطورة التي تستحث عقول الأطفال والشباب للتفكير والمران عليه في كل ما يصادفهم من ظواهر أو معارف وخلافها. وفي نهاية المطاف يقفز إلى الذهن التساؤل التالي أين المفكرون العرب وماذا قدموا لمجتمعاتهم خلال هذه الفترة الزمنية الطويلة مقارنة بمفكري المجتمعات الأخرى من غرب وشرق؟ وفي المقابل ماذا قدمت «أو ماذا ستقدم» الحكومات والمجتمعات العربية للمفكرين العرب «القلة» مقابل أفكارهم المتواضعة؟ أليس التفكير هو أساس التطور والحضارة الإنسانية بشكل عام وحضارة كل أمة منفردة؟ ألا يستحق التفكير والمفكر الرعاية والدعم والحفز. e-mail:[email protected]