«شيماء» لا تخاف من الكلاب، لا تخاف كثيرا من الحشرات الصغيرة التي تتسلل إلى فراشها ليلا، لكنها تخاف من أخبار الثامنة، حين ترى أسرتها تحدق في التلفزيون، حين ترى التلفزيون يتحدث عن هذه الحرب التي تقترب من بلدها. الرجال يتناقشون ويتجادلون أمامها، تسمع والدها يتكلم عن الحرب، تعرف أن الحرب تعني شيئا فظيعا، حتى وهي في السادسة من العمر، « شيماء» تعرف ذلك جيدا.. بعينيها الحزينتين، بوجهها الأسمر الجميل وغير المتحمس لشيء مهم تقول لنا «شيماء»: - ((أنا أسد أذني بقوة كي لا أسمع، أنا أعرف أن رجالا سيأتون إلينا ويسرقون كل شيء منا)) ستة أعوام جالسة أمامنا خائفة ومرتبكة، كل شيء فيها يحكي الفرح والحزن، تذهب «شيماء» إلى الدكتور «ماني رودالن» طبيب نفساني نرويجي مختص في علاج الأطفال من الصدمات النفسية الناتجة عن الحروب.. بعد ثلاثين سنة استغرقها في البحث أثناء وبعد الحروب من البوسنة إلى رواندا، من الكونغو إلى سيراليون أحيانا يشتغل لصالح بحوث خاصة بهيئة اليونيسيف، يتكلم الدكتور «رودالن» دوما إلى هؤلاء الأطفال عن الحرب المحتملة محاولا تحضيرهم نفسيا إلى الحالة التي يجدون أنفسهم قبالتها في النهاية، حالة الحرب نفسها، وها هو يأتي إلى العراق، يلتقي يوميا بأطفال ترعبهم النظرات الفاحصة التي يشاهدونها من كل جهة، ليس له عيادة خاصة ولا مستشفى معين يستقبل فيه أطفاله، إنه يعتمد على الأسلوب الأسهل والأبسط، أسلوب الذهاب بنفسه إلى البيوت العراقية، يطرق الأبواب باباً باباً، أحيانا يلقى الاستغراب وأحيانا يلقى الصد، ولكنه يلتقي دائما بالأطفال الذين يكتشف في وجوههم شيئا كبيرا، ربما لأنه مع كل طفل يحاول مساعدته يتلمس حجم الكارثة التي يدور فيها، بأن يسأل نفسه «كيف نحمي الطفل من حروب الكبار؟» * إذاً يا شيماء؟ ماذا يقولون في التلفزيون؟ يقولون انهم سيأتون لقتلنا، لذبحنا بالسكين وسرقة دراهمنا. * يتكلمون عن القنابل أيضا؟ نعم عندما تسقط القنابل سوف تتشقق الأرض وسيؤلم الدخان عيوننا.. * هل يخيفك هذا؟ نعم. * هل تعتقدين أن أحدا ما سيحميك؟ سيمنعني أخي من الخروج لو سقطت القنابل وستخفيني أختي في بئر الدار لو جاء الجنود. * لكن من هم هؤلاء الذين سيهاجمونكم هكذا؟ رجال يضعون أقنعة. * هل لديهم اسم هؤلاء الرجال؟ أمريكيون، أمريكيون يضعون أقنعة سوداء يشترونها من محل كبير! تقول «شيماء» أنها لو لم تشاهد التلفزيون فسوف تستمع إلى كلام والديها والجيران عن أولئك الذين سيأتون لقتلهم جميعا. شقيقها في العشرين من العمر، كان يستمع إلى مخاوف أخته صامتا، لم ينطق كلمة واحدة طوال تلك الجلسة، لكنه كان حزينا. بعد انتهاء المحاورة مع الطبيب النفساني تعود شيماء إلى الحديقة لتلعب الكرة، نشاهدها من خلف الزجاج وهي تركض، وتضحك كلما قذفت بالكرة بعيدا.. تبدو فجأة سعيدة، ربما هذه من اللحظات القلائل التي تنسى فيها خوفها من الرجال المقنعين. الدكتور «رودالن» الذي قام ببحوث قيمة في العراق مباشرة بعد حرب الخليج الثانية يعترف لنا: «لقد تغيرت العائلات العراقية بالخصوص تلك التي تنتمي إلى الطبقة الفقيرة.. الآباء يشعرون بالتعب، إنهم محبطون، كأنهم استقالوا من الحياة بالمقارنة إلى العشر سنوات الماضية.. إنهم لا يتحدثون إلى أبنائهم كما يجب على الوالدين أن يفعلا، لا يحاولون أن يكشفوا عن خوفهم الكبير إن هم تحدثوا، لا يريدون أن يعترفوا أن الحياة في ظروف الحرب والصراع النفسي أفقدتهم الرغبة في المقاومة الحقيقية، لهذا هم يتكلمون عن الحرب بأسلوب من الترهيب والتخويف الذاتي. هذا الترهيب سرعان ما يلتصق بنفسية الطفل الذي لايجد كلاما يقال له سوى الكلام عن الحرب وعن القتل فهم لا يفرقون بين الحقيقة والخيال عندما يتعلق الأمر بالحرب، (يواصل الطبيب كلامه لي) قابلت ذات مرة أب أسرة يقول «ربما سنموت جميعا»، كان يقول ذلك أمام أطفاله الخمسة، طبعا الأطفال يصدقون كلامه، في المدارس يتكلمون عن الحرب وعن الصراع الدائر ويستعدون للطوارئ، ساعة يوميا يخرج التلاميذ لأداء تمارين السلامة. الطفل مثل العالم الاختصاصي: إنه يسجل كل إشارة كل ثابتة كل صغيرة وكبيرة ويحاول بعقله الطفولي أن يحلل الحالة. الطفل العراقي يواجه الخوف وحده.. التحق الدكتور «ماني رودالن» ببعثة علمية كندية نرويجية تدرس في العراق الأثر الإنساني والنفسي الناتج عن سنوات الحصار.. بالنسبة إليه فإن دراسة سلوك الطفل بعد حرب محتملة يعتبر عملا سياسيا أيضا، يقول أنا تعودت على الحضور إلى أماكن الحروب بعد اندلاع الحرب بصفتي طبيبا نفسانيا وصدقني أشعر أحيانا بالعجز أمام حدة الصدمات النفسية. هنا أنا طبيب ومناضل في نفس الوقت.. أنا ضد هذا الصراع غير المتوازن وأشعر أنه واجبي الإنساني الذي قادني إلى بغداد، أتمنى لو أستطيع التصدي للحرب كي أجنب أطفال العراق صراعا آخر لا يبدو هينا هذه المرة.. الحرب دائماً بغدادالمدينة القديمة: الساعة العاشرة صباحا، الناس يمشون في كل اتجاه.. بعضهم يهرول كما لو أنه يريد الانتهاء من مشواره بسرعة.. عندما تتوقف فجأة أمام مقهى شعبي أو أمام محلات شعبية كتلك التي تنتشر بكثرة على جوانب الأزقة الضيقة تشعر ألا شيء يثير الآخرين سوى الحرب، الحرب من جديد، الحرب دائما. يقول لي صحفي عراقي التقيت به مرتين منذ وصولي إلى بغداد: الناس لا يجهلون أن مصيرهم سيبدو غامضا بمجرد سقوط أول قنبلة على بغداد أو على أي مدينة عراقية، الناس ذاقوا طعم الصراع، يعرفون أن خسارة الأمن أصعب بكثير من خسارة عزيز أو حبيب والحال أن العراقيين خسروا أمنهم حقا. سألته: ألم يخسروا أمنهم بنظام كالنظام الحالي؟ رد بغضب حاول إخفاءه أنتم الأوروبيون تعتقدون أنكم تملكون الحقيقة، لكنكم لا تعبرون سوى عن رأي لسنا مجبرين على قبوله!. رأي ليسوا مجبرين على قبوله قطعا، لكن على الأقل عليهم أن ينصتوا للآراء تلك، لأن منح شعب كامل قربانا يعتبر جريمة أيضا. صديقي الصحفي غادرني قبل حتى أن يودعني، كنت أنظر إلى العاصمة من ذلك المكان المنخفض، فقد اكتشفت أن الأماكن المنخفضة تكشف وجه المدن أكثر من الأماكن المرتفعة. الاخ الأكبر «الموصل»، «ذي قار»، «السليمانية»، «صلاح الدين».. «البصرة»..«نينوى»، كلها مدن تشترك في كونها عراقية، عراقية جدا، بنفس الخاصية التي تجعلك تفكر وأنت تدخلها أنك في العراق، ربما لأن صور الرئيس العراقي تتوسط الشوارع الكبيرة فيها، صور ضخمة تجعلك تشعر بالخوف، وأنت تمشي معتقدا أن الرئيس العراقي يحدق فيك بعينيه الحادتين، ربما هذا ما أراده الشخص أو الأشخاص الذين اخترعوا فكرة وضع صور الرئيس بهذا الحجم وسط الشوارع الكبيرة في المدن.. الصور تلك لا يمكن فصلها عن الوجود العسكري المكثف، عن الحواجز الأمنية التي لا يمكن فصلها عن حالة الرعب المنتشرة في كل مكان..«البصرة»، أكثر المدن العراقية أهمية، وأكبر المدن العراقية صمودا.. ربما لأن البصرة مدينة حرب، من اللحظة التي تجد نفسك داخلها تعرف أن البصرة عانت.. وتعاني، وستعاني. الناس هنا يتكلمون عن الحرب كما يتكلمون عن الخبز، لكن خوفهم ليس بحجم سكان بغداد، خوفهم من النوع المعتاد، إنه خوف سكان يعرفون أنهم يعيشون داخل الإعصار، وأن الإعصار يصيبهم في دوراته الطبيعية.. كنت قد اتصلت من بغداد بأحد الأطباء النفسانيين الفرنسيين الذي دلني عليه الدكتور «ماني رودالن»، كان «ستيفان سيندر» بانتظاري..الدكتور «ستيفان سيندر» موجود في البصرة منذ 5 أعوام. أطفال أبرياء يقول ليس ثمة ما هو أقذر من حرب لا تضع أمام عينيها أطفالا أبرياء، لقد كنت في فلسطين وشاهدت كيف يموت الأطفال، كيف يحصد الموت حياة أبرياء لاقوة لهم، شيء فظيع ما يرتكبه الغرب من صمت إزاء كل هذا.. طبعا كنت صامتا، كان واضحا أن الدكتور «ستيفان سيندر» لا يقول هذا الكلام إلا لأنه يشعر به، سألته عن الحياة في البصرة فرد: الحياة هنا حزينة، لايمكن أن تدخل إلى بيت عراقي دون أن يأخذك صاحب البيت إلى تأمل صورالموتى الذين قضوا في الحروب السابقة كان المستشفى المركزي الذي يعمل فيه الدكتور «ستيفان» أشبه بالزنزانة الضخمة التي لا تجعلك تتأمل سوى غرفها الضيقة والمتلاصقة، بلونه الأزرق الفاتح يمكنك تذكر مركز «ديجون» الفرنسي لإعادة التربية! كان المستشفى آهلا بالزوار، قصدنا الطابق الثاني حيث يوجد مكتب الدكتور«ستيفان»، لم يكن مكتبا بأتم معنى الكلمة، كان غرفة غير مؤثثة تماما، فيها مكتب صغير يشبه طاولة تلاميذ من الطور الأول، لكن الطبيب بدا منسجما مع «مكتبه»، والملفات الكثيرة المرتبة فوقه.. ربما لأنه يستقبل فيه أولئك الذين تعرضوا إلى صدمات عنيفة من جراء الحرب، بعضهم فقد أحد أعضائه.. وبعضهم فقد أحلامه كلها، منهم الكبار ومنهم الصغار أيضا، الجميع يعرف أن في نفسه شيئا ما لا يمكن اعتباره عاديا..كنت أعرف أنه من الغد سوف ألتقي بالذين أبحث عنهم، سواء كانوا أطفالا أو كبارا يوحدهم نفس الإحساس بالخوف من الحرب ومن المجهول.. نزار وظلمات الحرب «نزار» في السابعة من العمر.. تحمله أخته الكبرى إلى الطبيب، يعاني «نزار» من الرعب من الأماكن المظلمة، لكن إحساسه بالخوف زاد في المدة الأخيرة، فثمة من يقول له إن الحرب هي المكان المظلم الأكثر هولا في الدنيا.. كلام ليس بالخاطىء. يستقبل الدكتور «ستيفان» «نزار» بالأحضان، يتحدث معه بالعربية، يبدو الطفل سعيدا وهو يتكلم إليه، كنت جالسا مكاني أحاول عدم لفت الانتباه إليّ. * قل لي «نزار» كيف تشعر بنفسك اليوم ؟ بخير، لكنني أشعر بألم في رأسي.. (تتدخل أخته وتقول انه يعاني من الصداع منذ يومين). * هل تفكر في شيء ما يزعجك التفكير فيه؟ هل سيقتلوننا حقا؟ * من ؟ يقول أبي أن الغزاة سيدخلون إلى هنا، وسيقتلوننا.. * لا، لن يدخل أحد إلى هنا، تذكر ما قلته لي آخر مرة أنت طفل رائع صحيح؟ نعم، لكن رأسي يؤلمني. * سوف أعطيك دواء يزيل عنك الصداع، لا تقلق، «عمر» «خالد» «طارق» «خولة» «ليلى»، كلها أسماء ملفات على مكتب الطبيب وصور مدهشة لأطفال يمكنك أن تلتقي بهم في أي مكان، لكن العراق لم تعد أي مكان، كنت أتصفح الصور، أقرأ ما كتبه الطبيب بخطه السريع جدا، الحالة نفسها، صدمة الحرب التي يعرفها الكبار، الحرب التي يستمع إليها الصغار. الآباء يقطعون المسافة بينهم وبين أطفالهم بالكلام عن الحرب، والفقر يباعد تلك المسافة نفسها..اليوم لا يمكن لأي أوروبي موجود في هذا البلد أن يعبر عن مفهومه للحياة ككل، لا يمكنك أن تكون غير مكترث عندما تعرف أن الحياة البائسة موجودة في كل مكان، التعب منتشر كالمرض المعدي.. لم يكن بامكاني البقاء في البصرة أكثر من 24 ساعة، جاء أحد المرافقين يطلب مني المغادرة، عدت إلى العاصمة العراقية. الوفود الدولية ما زالت تأتي، جمعيات السلام، والجمعيات الإنسانية، أشخاص جاءوا إلى العراق من أوروبا ليكونوا الدرع الواقي ضد الحرب، أشخاص عاديون، منهم الأساتذة ومنهم الطلبة، جاءوا من انجلترا ومن بلجيكا ومن فرنسا وألمانيا والسويد، جاءوا متحدين الحرب المفروضة على المنطقة. فرضتها الولاياتالأمريكيةالمتحدة طبعا ، جاءوا كي يموتوا مع العراقيين كما قال لنا أستاذ ثانوي إنجليزي ترك عمله لأجل عمل إنساني صادق كما يقول، شاب بلجيكي يقول غاضبا أمريكا تريد احتلال العالم وتريد منا أن نؤيد أسلوب الظلم الذي تمارسه على الشعوب، لن نصمت لأننا لو صمتنا فسوف تحارب أمريكا كل دولة لا تعجبها نحن نرفض قتل الأطفال والنساء والشيوخ، نرفض الحرب.. الأطفال والنساء والشيوخ، أليسوا هم من يدفع الثمن عادة؟ 13 مليون طفل عراقي مهدد اليوم بالموت، الجوع ونقص الدواء والحرب في بلد يعاني من وضع اقتصادي كارثي.. ومن توسع الهوة بين الطبقة الفقيرة (التي تشكل 56 % من مجموع السكان) عن الطبقة الغنية التي تحتكر الحياة العامة، هذا ما تبقى من العراق! (*) عن «الليموند» الفرنسية خدمة الجزيرة الصحفية