لا تظن ايها القارىء انني اريد بالمصادر جمع مصدور ، وان كان ذلك لا يصح في اللغة. وانما اعني بالمصادر هذه الصدور التي تحوي من العلوم والمعارف الشيء الكثير مما لم يدون في الكتب، وما لا نجده في بطون الاسفار. والعجيب ان جل ارباب هذه الصدور لا يقدِمون على تدوين معارفهم، بل يدعونها دون تدوين، لا بخلا بها، فهم ينشرونها بألسنتهم في الناس، ولعل عدم تدوينها آت من التسويف، وربما لزهد في الشهرة او نحو ذلك، على الرغم من كون هذه المعارف والمعلومات يندر في الغالب من يعرفها ويستمد منها الا ندرة نادرة من رجال الجيل الماضي الذين امتدت بهم الاعمار، وامثال هؤلاء عادة قليلون في كل زمان ومكان. انهم ارباب ذاكرات فارقة، وهم اناس ألموا بمعارف واسعة واخبار كثيرة حيث اتاحت لهم ظروفهم ان يعرفوا عن الناس ، وعن الحياة الكثير مما لم يعرفه الاخرون, هؤلاء الرجال اذا اتيح لبعض الباحثين استثمار مادليهم من معارف ومعلومات كان ذلك فضلا كبيرا على ثقافة امتنا وعلى تاريخنا وتراثنا. لكن الغالب هو ان هؤلاء يظلون يحملون علمهم في صدورهم، حتى اذا ما اختارهم الله مات علمهم معهم فخسرت بذلك امتهم علما غزيرا ومعارف واخبارا نادرة. وما اكثر ما اسفنا على الراحلين وما رحل معهم من علم ومعرفة، وتمنينا لو اننا استثمرنا مالديهم من تلك المعلومات. نحن لا نملك امر بقائهم، وان كنا نكره رحيلهم، ولكن هذا طريق يطرقه كل حي، هكذا قدر الله سبحانه وتعالى لجميع الاحياء ان يسلكوا هذا الطريق، فمهمتنا اذن العمل على استثمار الثروات المعرفية التي يحملها هؤلاء الذين خصهم الله بهذه الذاكرة بعدما اتاح لهم الفرص التي جمعت لهم من الخبرات مالم يجتمع لغيرهم. لكننا ويا للاسف نظل في غفلة عن ذلك، وقد لا نعطي مثل هذا الشأن الاهتمام الذي يستحقه، بل ربما لا نولي مثل هؤلاء الاشخاص ما يستحقونه من اهتمام يشعرهم بأهميتهم، واهمية ما يحملونه من علم غزير، بل ندعهم في حياتهم وكأنهم أناس عاديون نتعامل معهم كتعاملنا مع سائر الناس، ولا نلتفت الى ما خصهم الله به، فاذا اختارهم الله وجدتنا نبكي عليهم، ونأسف على ما كانوا يحملونه في صدورهم، ونقول لو كان كذا لكان كذا وكذا، ولكن هيهات، فهلا كان ذلك قبل رحيلهم وخلو الميدان منهم. ان البكى على الراحل ، الثناء عليه ، وتكريمه بعد رحيله وما الى ذلك من اعتراف بفضله لا ينفعه شيئا، ولا يجدي على الامة شيئا، كما ان ذمة لو حصل لا يضره شيئا كذلك. اسماء رضي الله عنها، عندما اتى اليها ابنها عبدالله ابن الزبير يسألها في امر القتال امرته بان يمضي فيه اذا كان متيقنا من انه على حق وقالت له: اتخاف ان يقتلوك ، فقال: انا لا اكره الاستشهاد، قالت: اذن ما الذي تخشاه، قال: اخاف ان يمثلوا بي ويصلبونني. قالت: وهل يضر الشاة سلخها بعد ذبحها. ونحن نقول الآن ، وماذا ينفع الراحل من الثناء والتكريم بعد رحيله. نظل نتعامل معه كانسان عادي فلا نشعره بأهميته مادام بيننا، ومادام في الاحياء ، فاذا ما رحل قلنا كان فلان، وكان، وكان، وكان، وقد نصفه بالمثالي الذي لا نظير له، فهلا كان ذلك في حياته ليدفعه الى مزيد من العطاء ومن النجاح والى اغرائه بمنحنا ما يحمله في صدره من معارف، الّا يكون ذلك اجدى على أمتنا لو فعلناه. تذكرت هذا حينما فجئت بخبر وفاة زميل عزيز، بل اخ كبير بمنزلة الوالد لمن حوله من الموظفين. ذلك هو الشيخ حمد بن عبدالله بن حمد آل عبيكان العمران، رحمه الله واسكنه فسيح جناته. حمد هذا الذي كان من اكثر الناس معرفة باخبار هذه البلاد وبسير رجالها، يحفظ تاريخ البلاد والرجال عن ظهر قلب، ويحفظ من نوادره مالم اسمعه من غيره اطلاقا. لقيته اول ما لقيته في العمل، وعرفته فيه رجلا مهذبا يحظى بثقة الاميرين الجليلين، صاحب السمو الملكي الامير سلمان بن عبدالعزيز، وصاحب السمو الملكي الأمير سطام بن عبدالعزيز. ولا اريد على الاقل هنا الحديث عن منزلته لدى الاميرين الجليلين فذلك ما تكفي فيه زيارة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان، اسرة الفقيد في منزله وتعزيتهم فيه. ولن اتحدث عنه ايضا زميلا كبيرا في امارة منطقة الرياض كما يعرفه كثيرون من زملائنا وغيرهم. وانما الذي يعنيني الحديث عنه هنا على الاقل هو ما عرفته عنه خارج ميدان العمل، حيث كنت اذهب مع ابي الى مجلس الشيخ سعد بن رويشد في صباح كل جمعة يكون فيها في مدينة الرياض، وذلك ان الشيخ سعد ، في الصيف يكون في الطائف، وفي الشتاء يكون في جدة وما بينهما يكون في الرياض. وكان مجلس الشيخ سعد يجمع جملة من الفضلاء مثل: ثنيان بن فهد الثنيان، وفهد بن محمد العمران، وسعيد القحطاني، وعبدالعزيز الشويعر، وابراهيم العيسى رحمه الله هذا الذي جر تأبينه الى هذا الحديث رحمه الله واسكنه فسيح جناته. كنت آتي مع ابي الى هذا المجلس لاسمع من اخبار الاولين والآخرين ما لم اسمعه من قبل، وما لم اقرؤه في الكتب. واذا كان المصاحب لابي هو اخي عبدالحميد، كنت اسأله عما سمع، لاننا كنا نتذاكر ما نسمعه في هذا المجلس وامثاله. وكان الشيخ رحمه الله اكثر الحاضرين الماما بما كان قد جرى في هذه البلاد، حتى ما كان قبل مولده في العقد الرابع من القرن الرابع عشر للهجرة وبخاصة ما كان يتصل بالملك عبدالعزيز - رحمه الله - واسرته ورجاله وسكان مدينة الرياض. لقد كان رحمه الله متحدثا ماهرا، اذا تكلم لا تملك الا ان تصغي اليه، واذا روى أتى لك من الاخبار بما لم تسمع به من قبل. اخبار تدل مناسباتها وظروفها على صحتها، وكثيرا ما اكد ذلك او بعضه كبار الحاضرين كالشيخين، سعد، وثنيان، وسعيد. غير ان الذي يجعلها غريبة حينا هو ان احدا لا يروي الكثير منها الا هو - رحمه الله -. حقيقة لا استطيع ان اصف شعوري حينما سمعت بوفاة هذا الرجل، لاني زاملته في امارة منطقة الرياض، وعرفته اكثر في مجلس الشيخ سعد بن رويشد، الذي كان من رفاقه في الصبا، وقد كتب الشيخ سعد، عن الفقيد كلمة تأبينية جيدة تدل على حب ووفاء، وما ذلك بالمستغرب من مثل الشيخ سعد. وازيد اني لم اجد من الشيخ احمد رحمه الله الا كل لطف وكل تواضع مع ما هو عليه من منزلة اجتماعية، وخبرة بمجتمعنا السعودي منذ زمن طويل، يروي من اخباره ما يعجب منه كبار السن اذا رواها لهم ، فيسمعونها شيئا جديدا لم يسمعوا به من قبل. وكان اذا تحدث يندفع الكلام من فمه كانحدار السيل من مرتفع الى منحدر يفيض فيه باخبار عن البلاد واحداثها، وعن الرجال وصفاتهم، واخلاقهم، وسيرهم، وما يتحلون به، حتى كأنك تشاهد اولئك الرجال من دقة وصفه لهم. ولقد سمعت ابي يقول له: ياشيخ حمد لو انك سجلت هذه المعلومات لانها تاريخ لم نقرأه فيما دون ، ولم نسمع فيما يتحدث به الرجال فلم يكن منه رحمه الله الا ان وعد بذلك، لكن القدر كان اسرع من نيته. رحم الله الشيخ حمد، واسكنه فسيح جناته.