في هذه الاحتفالية الرائعة بناقدنا ومبدعنا الدكتور عبدالله الغذامي لن اتحدث عنه كناقد او مفكر او مبدع، فهذه الجوانب تداولها الكثير من محبي الدكتور الغذامي، ويعرفها قراؤه وتلاميذه, وقد كان لي نصيب في ذلك في قصيدة نشرتها في جريدة الرياض في الاسبوع الثاني من شهر شوال الماضي, وحين نحتفل بالغذامي فإننا نحتفل بالوطن، وحين نحتفل بالوطن فإننا نحتفل بأنفسنا جميعاً، فالجائزة ليست جائزة الغذامي، بل هي جائزة الوطن، ومن محاسن المصادفات انها جاءت في هذا العام الذي تتوج فيه الرياض عاصمة للثقافة العربية، فهي اذن مساهمة الغذامي في هذه المناسبة العزيزة لهذه المدينة العزيزة، والغذامي نفسه مساهمة عنيزة ومثقفيها في هذا الاحتفال الرائع. لقد سبق ان قلت رأيي بالغذامي ناقدا ومعلما ومفكرا بتهنئتي الشعرية له بمناسبة حصوله على هذه الجائزة، وقال غيري الكثير مما هو أهل له، ولكن الشيء الذي لم يقله ولن يقوله أحد هو ما سوف اقوله انا هنا بحكم علاقتي اللصيقة به، ومعرفتي القريبة له، ويقيني انه لن يوافق على ذلك لو استشرته، لعزوفه عن الحديث عن نفسه او عن التحدث عنها من قبل الآخرين، ولكن يشفع لي في ذلك انني أتحدث عن الجوانب الشخصية المشرقة لدى هذا الرجل لا رغبة ولا رهبة ولكن ذكراً لمحاسن أحيائنا الذين يجب ان يروا هذا التكريم والاحتفاء ماداموا يملكون وقتا للسرور والفرح, وقد عقدت العزم على ألا أخبره بما سوف اكتبه عنه تحاشياً لأي معارضة من قبله. في حياة كل شخص منا جوانب خاصة جداً منها مايحسن ذكره ومنها ما لا يحسن،ولحسن حظ الغذامي انني لا اعرف إلا ما يحسن ذكره، وسوف اعتبر ذلك جانباً من سيرته التي لا يعرفها إلا القليل ممن يعرفونه. أنا أعتبر نفسي تلميذا من تلاميذ الغذامي وان لم يحالفني الحظ لأجلس أمامه على مقاعد الدراسة، فالتلمذة لا تنحصر في ظرف ولا زمان، وكل منصف يجلس معه لا يملك إلا ان يرى نفسه تلميذاً أمام شيخ جليل ممن قرأنا عنهم في كتب السلف، لا تجده متعالياً على من أمامه متباهيا بعلمه وفهمه للأشياء ولا تراه متعالما بما لايعلم، ولايجد غضاضة من التعلم ممن هو اصغر منه سنا وعلماً، ولا يأنف ان يقول لا أعلم عن شيء لايعلمه، او ان يسأل عن شيء يجهله، تحدثه فتجده مطرقاً إطراقة تغريك به، وحين يحدثك فإنك لا تمتلك إلا ان تطرق اطراقه تغريك بنفسك، فتمثل بقول المتنبي: تعرف في عينه حقائقه كأنه بالذكاء مكتحل أشفق عند اتقاد فكرته عليه منها أخاف يشتعل يقسو أحيانا على بعض طلابه قسوة لي نصيب منها، ولكنها قسوة الوالد على ابنائه، وطلابه يعرفون عنه ذلك، ويدركون هدفه من تلك القسوة, يرى ان التعليم تربية بالقول والعمل، وليس تلقينا وتحفيظا، واذكر انه في احد الفصول الدراسية اضطر للسفر منتصف الاسبوع دون أن يخبر طلابه بذلك فطلب مني ان احضر بدلا عنه لئلا يعتقد طلابه ان ذلك اهمال منه او عدم اهتمام فيقتدوا به في مستقبل ايامهم مع طلابهم. معرفتي بالغذامي تمتد جذورها الى مرحلة الطفولة في مدينة عنيزة حين بدأت الدراسة في المعهد العلمي هناك في السنة الأولى وهو في آخر سنواته الدراسية فيه، وكان ذا صوت مسموع في جنبات المعهد، فقد كان شاعرا ذا مشاركات شعرية ونشاط ثقافي يعرفه جميع اساتذته الذين جلس أمامهم على مقاعد الدراسة في المعهد. وقد كان ميولي للشعر بذرة صغيرة في نفسي لصغر سني في ذلك الوقت، وكنت انبهر انبهاراً شديداً بكل شاعر، واعجب بقدراته، وأحسده عليها، فشدني ذلك الشاب المملوء حيوية ونشاطا بمكانته بين أساتذته، وبما اسمعه منهم من كلمات الاعجاب به وبثقافته، ولم اكن املك الشجاعة الكافية للاقتراب منه او التعرف عليه، على الرغم من شغفي بالشعر ورغبتي في معرفة كيف ينظم الشاعر شعره، لا لجفوة به، ولكن لحياء طبعت عليه، وما زلت اعاني من بقاياه, كان هو والاستاذ الشاعر محمد بن عبدالله السليم صديق عمره كفرسي رهان في مضمار الثقافة والشعر في المعهد وخارجه، وكانا صديقين لدودين، ان جاز التعبير، يظهران الصداقة الحميمة ويضمران المنافسة الشديدة، فكسب المعهد من ذلك صوته وصيته آنذاك، وكسبا هما من المنافسة العلم والثقافة، ومن صور المنافسة بينهما حين كانا طالبين كما حدثني الغذامي أنهما كانا يتنافسان على قراءة كتب التراث القديم، وكانا يذهبان الى المكتبة العامة في عنيزة لاستعارة تلك الكتب، يقول الغذامي: وكنت حين اذهب لأستعير الكتاب ألقي نظرة على سجل الاعارات لأعرف الكتب التي استعارها محمد السليم، ومتى استعارها، ومتى أعادها، محاولا ان أتفوق عليه في كل شيء يتعلق بالقراءة، وبخاصة الوقت الذي يقضيه في قراءة الكتاب، وبهذه الطريقة استطعنا ان نقرأ كثيراً من الكتب مثل كتاب الاغاني وكتاب نفح الطيب وبعض الدواوين الشعرية، وكانت هذه منافسة صامتة على الرغم من معرفة كل واحد منا بها، وقد استفدنا منها كثيراً, كان الغذامي جادا في ثقافته وقراءته، منظما لوقته منذ ذلك الحين، وقد حدثني مرة أنه وجد منذ سنوات في كتاب مروج الذهب للمسعودي الذي اقتناه وقرأه حين كان طالبا في المعهد ورقة مكتوبا فيها مايلي: في هذا اليوم الأغر مر عام على القراءة الجادة، 1383ه . وهذا التعليق البسيط بساطة تلك الايام يبين مدى اهتمامه بجدية القراءة وفرحته بذلك بقدر ما يبين صلابته مع نفسه وأخذه إياها بالجدية منذ ذلك الحين حين قرر عام 1382 ان يبدأ القراءة الجادة، وقد استمرت معه هذه الجدية الى يومنا هذا مما جعله يعزف عن كثير من متع الحياة التي يقبل عليها اقرانه، فابتلي منذ ذلك الوقت بالارق الشديد فاستسلم له استسلام المؤمن بالله، حتى انه احياناً يمضي عليه اليوم واليومان دون نوم أو راحة. وفي الوقت الذي امتصت فيه هموم الحياة ومشاغلها الاستاذ محمد السليم فصرفته عن الشعر كما صرفت الكثيرين، نجد الغذامي يستطيع بصلابته وجديته ان يمتص هموم الحياة ويتجاوز عقباتها باحثا عن طريقه بين دروبها فوجده في النقد لا في الشعر فاستطاع بتنظيم الوقت والقسوة على نفسه ان يحتل مكانة عالية أهلته مرتين للحصول على جائزتين خليجيتين، كانت الاولى جائزة التربية لدول الخليج العربية، والثانية جائزة سلطان العويس. حين نشر كتابه الخطئية والتكفير كثرت حوله الأقاويل وعانى معاناة شديدة من جراء الاتهامات التي كانت تلصق به، ولكنه كان مؤمناً بالله سبحانه وتعالى ايمانا قويا يجهله أولئك الذين لايعرفونه ويهاجمونه حسدا وافتراء ، وكان ايمانه القوي وخشيته من الله وحده سببا في قوة وقفته أمامهم وعدم خشيته منهم، وكان يستشهد دائماً بقول اسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بالأشدق: اني لأستحيي أن أخشى مع الله أحداً . والغذامي كما عرفته رجل متدين جداً، وشديد الحساسية تجاه كل ما يمس عقيدته وإيمانه يبني علاقاته دائماً على أساس من الايمان والعقيدة، صافي السريرة، لايعرف الحسد، ولايحمل في قلبه حقدا على أحد، كثير الترحم على من أساؤوا إليه، كثير الصدقات، محب لها، ويرى انها دواء للقلوب من الهم والغم، ويرى ان خير الصدقات صدقة أخفاها صاحبها حتى لا تعلم شماله ماقدمت يمينه، واحب هدية تهدى اليه، او كلمة شكر توجه اليه هي دعوة صادقة بالخفاء من قلب صادق. الغذامي رجل لايُسَوِّق نفسه أمام الآخرين، ولا يستغل مكانته وشهرته لمآرب شخصية، على الرغم من كثرة الفرص المغرية التي مازالت تعرض نفسها عليه، وتقرع بابه كل يوم تقريبا ويردها مطمئناً على حسن تصرفه، مقتنعا بما قسم الله له، وأنا أعرف كثيراً منها، واكثرها فرص مادية يستميت كثير من الناس للحصول على بعضها, يكره الحديث عن نفسه، او الاعلان عنها، في وقت كثر حديث الناس عن انفسهم او الاعلان عنها، ولا ادل على ذلك من ان احد الشعراء العرب الكبار المعروفين بعث اليه بقصيدة عصماء تهنئة له بمناسبة حصوله على جائزة سلطان العويس فآثر حفظها لديه وعدم نشرها على الرغم من سروره بها وشرعية نشرها، وقد حاولت إقناعه بنشرها في احدى الصحف المحلية لمواكبة موضوعها لهذه المناسبة، ولكنه رفض بإصرار, وقد زاره كثير من طلابه الذين حالفهم الحظ بالجلوس أمامه على مقاعد الدراسة لتهنئته بالجائزة، وكثير منهم قدموا من خارج الرياض، ولم يكتفوا بتهنئته هاتفيا، كما بعث كثير منهم برسائل تهنئة مؤثرة تنم عن حب شديد وتقدير كبير لأستاذهم وكل واحد منهم يعتبر الجائزة جائزته هو. من الجوانب الخاصة في حياة الغذامي علاقته بوالديه وبرّه بهما، فقد انتقل من جامعة الملك عبدالعزيز في جدة الى جامعة الملك سعود في الرياض ليكون اقرب اليهما في عنيزة، وكان ومايزال بارا بوالده رحمه الله في مماته كما كان في حياته، يدعو له ويتصدق عنه ويعتبره مثلاً اعلى له في الحياة، ويروي لي دائماً كثيراً من القصص التي يرويها عن والده بإعجاب شديد وكيف انه استفاد منها في حياته, أما برّه بوالدته، أمد الله بعمرها، فليس له حدود، وأمتع اوقاته تلك الاوقات التي يقضيها معها في عنيزة، وهو كما يقول، يعود طفلاً أمامها فيستمتع في كل ثانية معها بإحساس الطفولة, وأذكر حيث كنا في رحلة الجامعات السعودية الى سوريا في منتصف ذي القعدة عام 1417ه انه اضطر الى اختصار رحتله والعودة الى المملكة قبل عودة الوفد وحين سألته عن سبب ذلك قال انه سوف يحج بوالدته هذا العام ويخشى ان يتأخر عليها، فأكبرت منه هذا البر، ولم استكثره على رجل مثله. وبرّه وصلته بأقاربه لايعرفها إلا من يعرفه عن كثب، وقد رأيت تأثره العظيم حين توفيت خالته، شقيقة والدته وجدة اطفاله، التي كانت مقيمة معه في بيته، فقد سافر مع اطفاله لقضاء اجازة احد الأعياد في عنيزة وهي معهم وعادوا بعد ان توفيت هناك في الاجازة نفسها بمرض مفاجىء لم يمهلها أكثر من يومين. كل ماذكرته من جوانب مضيئة في شخصية الغذامي لا يعني انه إنسان لا يخطىء فكل ابن آدم خطّاء, والذي لايخطىء هو الذي لايعمل أبدا، والذي يعمل هو أكثر الناس عرضة للأخطاء، والغذامي اول من يعرف ذلك، وهي من مبادىء التربية لديه، ولأن المقام مقام تكريم، فمن التكريم ذكر محاسن الحي، ونشر فضائله وحسناته.