سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
في (يُحكى أن) فتيحي يلملم أنفاس الماضي..!
كل حكاية تصب في اتجاه معاكس إلا أنها في النهاية ذات مضامين غاية في الإنسانية
ليس لديه الميل للكتابة بصورة باردة، وهذا قد يأتي وقد لا يأتي
أخذ التفكير مني وقتاً طويلاً بحجم الرجل وجاشت في الخاطر نقاط متشعبة عبرت بعضها دون مشقة بينما تعثرت في معظمها.. وحينما بدأت التنقيب لجأت إلى مركز معلوماتي المتواضع جدا أتلمس زوايا اتكئ عليها وأنا بصدد رصد حالة نادرة ربطت بين الصناعة والتجارة والأدب والفكر ربطاً محكماً للغاية. حالة فريدة ان تلتقي الأرقام بصرعة الابداع والحاسوب بالفن وتجارة الأعمال بالعشق وعلو المكانة الاجتماعية والمهنية بالتواضع الذي لا يمكن اخفاؤه من خلال حكاياته الشعبية التي زيَّن بها كتابه الجديد (يحكى أن) والذي سنتناوله في هذه العجالة بصفة عامة لا تمثل بعض التوهجات التي وردت فيه والذي ساقها قلم أحمد حسن فتيحي التاجر الفنان.. لم أتمكن من الحصول إلا على صفحة رسمية عن سيرته العملية مسقطاً الجانب الأهم في مسيرته الفكرية والأدبية مما أفقدني الكثير من رصد هذه الشخصية التي صنعت الكلمة كما تصنع المجوهرات والعناقيد الذهبية. تعاطيت مطبوعته الصادرة حديثا (يحكى أن) وهي مجموعة خواطر مطرزة بقناديل ليل جدة هذه العروس الجميلة النائمة في حضن البحر.. شوارعها.. حواريها.. أزقتها.. أسواقها القديمة وناسها الطيبون وأنفاسها العطرة حيث يدشن كتابه بآيات من الذكر الحكيم ثم اهداء مقتضب لكنه مشحون بالعاطفة يقول فيه (إلى من أمرتني.. وأطاعتني.. إلى من آمنت ورضيت وقنعت).. وهي إشارات غاية الرقة والخصوصية. ويصب في المقدمة الكاتب المخضرم عبدالله عمر خياط كل مداد قلمه في الربط بين الذهب والابداع ويستشهد على ذلك بأبيات شعرية ربطت بين الماظ والذهب وعناقيد اللؤلؤ واستمرت المقدمة في هذا الربط حتى خاتمتها دون التعرض لمضمون المكتوب مما أفسد التركيز على مضامين ومحتويات الكتاب (يحكى أن) أو الحكي عن تلك الروايات التي صاغها المؤلف أحمد حسن فتيحي وهي أشبه ب (الونسة) كان الأجدر ان تصاغ مقدمتها من خلال حبكتها لا التركيز على المكانة العملية ونوع البضاعة الذهبية. أما عند الولوج إلى الحكاوي فقد جمعت مجموعة تأملات بين علاقة البيت بالمدرسة ضاربا مثلا بالابن الوحيد الذي أخذ من الدلال من والديه ما يحسده عليه أقرانه حيث دخل الفصل يوماً لينال العقاب والضرب من مدرسه بالصف الرابع الابتدائي والسبب انه كان يمتطي (البسكليتة) وحينما رأى معلمه في الشارع العام لم يترجل.. لتنتهي الحبكة بأن يقف والد هذا الابن موقفا منحازاً للمدرس مؤنباً ابنه المدلل على عدم نزوله من الدراجة احتراماً للمعلم. وهذه التورية تذكرنا ب(قم للمعلم وفه التبجيلا)، كما تذكرنا بالبون الشاسع بين معلم الأمس ومعلم اليوم والمستجدات التي طرأت على المسألة التربوية ككل. أما في (حي المستورة) في جدة القديمة فقد حكى المؤلف ببساطة عميقة وإيجاز متواز واختزال جميل عن بعض الحواري القديمة جداً والتي كانت تمثل جدة ذاكراً (غرب المشورة.. البازان.. الكركون.. البنط.. الكرنتينة.. البريد ثم البنقلة).. والواضح ان كل هذه الأحياء قد اختفت بالفعل وقامت مكانها أحياء بأسماء جديدة ماعدا (الكرنتينة) ذلك الحي البائس الذي ما زال باقيا.. والحكاية باقتضاب شديد ان اعرابيا من بدو الضواحي يقف مع ناقته بينما يجلس اثنان من علماء جدة وفقهائها بعد عصر كل يوم على كرسي الشريط الطويل ثم يعقل الاعرابي ناقته جنوب البازان ويتوضأ ثم يصلي وصاحبانا يراقبان حيث لم يتوضأ الاعرابي كما يجب ولم يقم الصلاة كما هو مفترض.. ثم عاد فتوضأ وهمّ بركوب ناقته وقد اختار صاحبانا توجيهه ونصحه وموعظته لتعليمه فروض الوضوء وأركان الصلاة.. وبما ان الاعرابي من بدو الضواحي تصعب مخاطبته فقد دعواه للحضور عندهما واقبلا عليه مرحبين متبسمين وسأله أحدهما ماذا تعمل؟ فقال إني حطاب احتطب وأبيع.. وقال الآخر ما الذي أتى بك إلى جدة في عصر هذا اليوم فقال الاعرابي.. أتيت لأشتري فأساً جديداً لابني الذي سيعمل معي بريال واحد فضة.. قال أحد الفقيهين لو أنك دفعت ريال فضة ممسوحا من غير كتابة عليه (لاستعماله الكثير) لصاحب الفأس هل سيقبله منك..؟ قال الاعرابي لو كان كريما يقبله.. ولو كان من ذوي الفضل لأعطاني الفأس وريالاً آخر.. وما كاد يمتطى ناقته إلا وسقط منها سقطة قوية على أرض صلبة هرع إليه المارة للمساعدة ومنهم صاحبانا اقتربا منه وسمعاه يقول.. (اللهم لا راد لقضائك.. فالطف بأحبابي وألحقني بأحبابك.. لا إله إلا الله محمد رسول الله). قال أحدهما.. نية المرء خير من عمله.. وقال الآخر.. من لم ينفعه ظنه.. لم ينفعه يقينه.. (أحسنوا الظن بالله). ومن هذه الواقعة التي تناولها المؤلف أحمد حسن فتيحي نستشعر عظمة الإيمان وقمة اليقين ثم الخاتمة التي اختارها المؤلف وهي من أبلغ الكلم (أحسنوا الظن بالله). وتتجه كل الحكايات الخفيفة الرشيقة في (يحكى أن) للفتيحي تنشيط وتفعيل الرتم والايقاع في هذه المحاور الاجتماعية البيئية البسيطة بساطة تلك الحياة في الزمن المغادر. وبالطبع لا يمكننا تناول الكتاب (يحكى أن) ذي ال(144) صفحة وما يتجاوز الأربع وأربعين حكاية واقعية علما بأن المؤلف قد قسم الكتاب إلى خمسة أقسام كانت على التوالي (تأملات ومشاعر وشيء وظل ومتنوعة واستراحة)، ولاستحالة تناول كل الحكاوي بسبب ضيق الحيز فلنأخذ من كل بستان وردة ومن كل قسم حكاية ولاسيما ان كل حكاية تصب في اتجاه معاكس إلا أنها في النهاية ذات مضامين غاية في الإنسانية والنبل والوفاء والصفاء والعطاء الذي كان سائداً في ذلك الوقت.. ولطالما أخذنا نصين من تأملات المؤلف أحمد حسن فتيحي فلنستمر ونقلب الصفحات متجاوزين بعض الاشراقات والجماليات السردية المحكية بعبارات وجمل بسيطة لكنها خلاَّبة تلامس أوتاراً حساسة في كل نبض يتناولها وفي كل عين تقرؤها وفي كل فؤاد يستوعبها. فإذا ما جئنا إلى القسم الثاني (مشاعر) نجد ان المؤلف قد وظَّف الكلمة الرقيقة والجملة المفيدة لواقع محسوس كان في حقبة سلفت لكنها ما زالت تعشعش في وجدان فتيحي على الرغم من التغير الحضاري الذي طرأ وساعدت على تأججه سرعة الاتصالات.. فالوسيلة الاتصالية لم تكن في ذاك الوقت بالحجم الذي يساعدها لشحن النفوس بالمعلومة السريعة العابرة بقدر ما كانت حفيف ظل يدور في فلك معلوم وفي (مشاعر) أي القسم الثاني للمؤلف نأخذ هذه الورقة (قالت لي.. الصوت الحنون.. والنغمة العطوفة.. والحياء الفطري.. تتقطر الكلمات صافية عذبة رقيقة).. هذا جزء من (مرحبا بقلق الرحماء) الذي تواصل فيه المؤلف واصفا كلمات محبوبته بتغريد طيور مهاجرة عادت إلى أوطانها تعزف ألحانها وتشدو بأغنية العودة وتتجسم الانفعالات حينما تنهمر الكلمات انهماراً من غير موعد ومن غير انتظار بل من غير توقع، ويتعمد المتلقي ان يستمع باصغاء شديد دون أن يبدي رأيا بل تأخذه الفكرة إلى ما لانهاية حيث عكس الراوي حقيقة هامة هي قلق الأب ثم قلق الأم الأكثر مساحة وهي لوحة جمالية شفافة لروعة هذه المكانة الرفعية التي تعلق بها المؤلف من حب ووله شديد بالأبوين وبرهما. وفي فصله الثالث (شمس وظل) يقول.. أقبلت وادبرت.. نجحت وفشلت.. تألمت وتأملت.. حزنت وسعدت مثل كل البشر.. هذه هي الدنيا مزيج من الخير والشر.. الحب والكراهية.. التفاؤل والتشاؤم.. رغم ان هذا الاختلاط الحقيقي لمعناها، إلا أن لها رائحة جميلة يجد فيها المؤمن طريقاً آمناً إلى الآخرة. الظلم أقوى وأعنف الفترات على النفس خصوصا ممن يحب ويتأمل.. الظلم هو ان تقدر الأمور وحدك وتبرر بها فعلتك وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه. في هذا السرد من نص المؤلف أحمد حسن فتيحي تتضح الرؤى في أن الدنيا مجموعة اضداد ورغم ذلك إلا أنها جميلة لولا الظلم الأقوى والأعنف في تقدير الأمور الأحادية مع خشية الناس علماً بأن الله أحق أن نخشاه. وهذه الصورة الإيمائية العميقة تحوم في نفس فتيحي كثيرا وقد شملت تقريباً كل مجموعة (الحكاوي) المنتقاة والتي كانت جدة مسرحها منذ نعومة الأظافر حينما كانت هذه (العروس) جدة غير.. وحينما كان التكافل مقدسا بين الناس والحب والمودة ورود وزهور معلقة على كل باب.. بلا ضجيج وبلا ظلم.. وبلا تعال أو تماد أو ثوب فضفاض.. وفي فصله (الرابع) متنوعة يقول في (أحاسيس).. قد تريحك بعض الكلمات التي تشيع في نفسك طمأنينة تعزز بها شخصيتك أو تضيف إلى معلوماتك عبراً.. وفي فقرة قادمة يقول لذلك فإن المراقبة الذاتية لنفسك بنفسك تعتبر حصناً لتجنب الزلات.. والمراقبة النفسية تحتاج إلى صحوة كاملة لكل كلمة تقال أو خبر يسمع.. ومشكلة البشر أنهم يقولون كل شيء وعن أي شيء لتسلية الوقت أو للادعاء بالعلم أو التقدير الساذج.. وتجد في النهاية أنك كنت ضحية لتلك الغفلة القصيرة التي كنت فيها. والكاتب يترجم هنا حقائق واقعية، إذ يقول بعض البشر يتقن هذا الفن وعن سبق إصرار فتجد في لحنه نغمة تخدعك وتنصرف بثقة بقدر تأثيرها.. في كثير من الأحيان تجد أنك قد انزلقت بعيداً عن الحقيقة تحت وطأتها.. ويتساءل المؤلف فأيهما أسبق.. الثقة أم الحذر؟ ولا أستطيع هنا ان أجيب بل أترك المساحة للقارئ الذي سينهل (يحكى أن) ليأخذ من الحكي الكثير المثير الذي ما زال عالقاً بالأذهان رغماً عن أنف الطفرة التقنية والاتصالاتية التي صرعت العالم بأسره. وأما في الجزء الخاص بالاستراحة التي أراد المؤلف أن يختتم بها هذه الحكايات التي بعضها كثير الخصوصية ليحدثنا في (دجى الليل) بين حبات المطر.. في ضوء القمر.. في دجى الليل بين النجوم.. مع الغيوم.. تحلو العبر، وفي (راحة السلام) يقول المؤلف كلما مرت عليّ ظروف مختلفة أخرج منها.. قويا.. متماسكا.. فلا أدخل في معركة أرى اني سأهزم فيها.. ليقول في خاتمة استراحته واصفاً (هي) بأنها قوية كالجبل.. ناعمة كنسمة الربيع.. رقيقة كقطرة الندى.. طيبة كاليوم الطيب.. نقية كالماء العذب.. في عينيها حيرة عجيبة.. تبحث عن الحنان.. تقترب منه في قوة.. ثم تداعبه في نعومة تشعره بطيبتها.. وتحتضنه بطهرها تصدم منه.. فتقابل الصدمة بقوة الجبل.. وتعود لتسامح في حنان.. وكأن شيئا لم يكن.. وهنا تتضح النزعة الشعرية - لدى المؤلف فتيحي- بجانب النفس الطويل في سرد الحكايات السرمدية بذاكرة حديدية لاتصدأ.. وبصبر وأناة في اختيار المعاني والألفاظ.. وبرصد دقيق لكل الحكايات والأحداث. ويختتم المؤلف أحمد حسن فتيحي بقصيدة نثرها على الغلاف الأخير يتحدث فيها عن الحب.. فيقول.. الحب.. أهل ومجتمع رمدينة ووطن.. الحب.. هو الحياة.. ولا حياة لمن لا حب فيه.. ولا حب منه.. ولا حب له.. إذا كنت محباً ذاك هو الغرام.. وإذا كنت محبوباً.. ذاك هو الدلال.. وإذا كنت محباً محبوباً.. فهذا هو الحب بعينه.. وبهذا الحديث الذي يفسده الشرح.. تتضح لنا الكلمة المرهفة فالوضوح والمباشرة والطمأنينة والآمال كلها عناصر ايجابية في هذا الكيان الذي اسمه الحب.. وقد قام المؤلف بتشريح الحب مستعرضاً بكلمات بسيطة وجمل مركبة جماليات الحب واصفا الحال بشكل عام لا حياة لمن لا حب فيه.. أما في الشطر الثاني من القصيدة فيربط المؤلف الحب بالرزق والرزق بالمال والذي ينظر إليه بأنه هو المقياس وفي النظرة المحدودة نوع من الغفلة.. ذلك لأن المال يعطى كل البشر.. وإما ان يكون نقمة أو نعمة.. وينتهي المؤلف بالصراع الذي يعيشه البشر والذي يحتاج إلى قوة هائلة لحفظ التوازن النفسي الذي يؤدي إلى الاسراع بطلب المغفرة ورفع الطموحات إلى ما هو اسمى واجل.. وفي هذا عودة إلى الحق.. أراد لها المؤلف فتيحي ان تبدو وتتبلور في نفوس البشر. الوجيه محمد حسن فتيحي رجل اقتصادي من الطراز الأول لكنه ربط الاقتصاد بالابداع والمال بالأدب.. يحيل الكلمة (الدارجة) إلى أدب رفيع إلى رياض معلقة.. يعشق الوطن كما يعشق العامية بينما له مقدرة فعلية في زخرفة الفصحى وتشكيلها.. لكنه (جميل) شرب أصالة (جدة) وقراها وهجرها الباسقة فطاف بنا في هذه الرحلة (الحكاواتية) الزاخرة بالذكريات والمضمخة بالأحلام.. والمليئة بالإيمان تحت راية لا إلا إلا الله محمد رسول الله. وقد ولد فتيحي في جدة في 14/11/1942م، حيث بدأ حياته العملية اثناء زياراته لمحل أبيه وهو لا يزال في السادسة من عمره وقد تعلم دروسه الأولى في عالم الذهب والفضة. ويرجع اسم فتيحي في عالم الفضة والذهب إلى الجد الأكبر في عام 1887م في مكةالمكرمة وقد كان الجد يعمل في البداية في المشغولات الفضية الأولية المتنامية مع تلك الفترة. وبعد الفراغ من تناول (يحكى أن) لا بد ان نتوقف عند قصيدة الشاعر التجاني يوسف بشير التي تحاكي الواقع الذي عاشه المليادير الأديب أحمد حسن فتيحي وهو يصوغ (عذب الكلام) احزاناً وافراحاً سادت ثم بادت ولم تبق منها سوى الذكريات.. يقول التجاني: من ترى الهم الجمال وقد أعطاه من جبرة الحوادث عضبا ان يبث الهوى مفاتن في جفن بليغ وأن يجود ويأبى يا جمال الحياة في حيثما كان أمنا وحيثما كان رعبا وجمال الحياة في كل من أعمل شرقا وكل من سار غربا أقس يا (حسن) ما تريد وتبغى أو فكن هيناً على النفس رطبا أنا وحدي دنيا هوى لك فيها كل كنز من المشاعر قربى والمؤلف فتيحي يكتب في لحظة الانفعال وليس لديه الميل للكتابة بصورة باردة، وهذا قد يأتي وقد لا يأتي ليس بيد الانسان ان ينفعل أو لا.. وفتيحي لايكتب الا عند الانفعال الساخن وقال قال الشاعر سعد الرفاعي عن الكتابة والابداع. كطيف تجيء فيبقى القلق يغرد في ساحتي بالأرق فاهرع نحو اليراع لظى ليعلن بدء احتراق الورق