يغيب التجريبيون المرافئ التي تركن إليها سفن العابرين في التجربة المسرحية، ذلك أمر يمكن الاستدلال عليه وفق مقومات العرض التجريبي لأنه تجربة مسرحية والتي تشترط قبل كل شيء إطلاق المخيلة الإبداعية وتحريرها من قيود «المعرفة» و«القواعد» التي يضعها البعض مقياس عمل لإثبات نجاح أو فشل التجربة. وعلى هذا الأساس ينبغي ان تكون وسائل التجربة الإبداعية «مبتكرة» لا يتبع بعضها البعض كأحصنة تجر عربات. كما وتسعى لتغييب كل ما هو «آني» في الزمن ومستهلكة في الحدث وذاتيّ الطرح.. للبحث عن الشمولي، والكوني والمتجدد. وبما أننا أشرنا في مقالة سابقة إلى «الكيفية التي يعيد العصر فيها إنتاج الأفكار» فإن التجربة الإبداعية «أية تجربة» حديثة تكون بحاجة ماسة لإعادة إنتاج الوسائل.. أو ابتكار المستجد منها، ان المبدع.. المبتكر.. بحاجة إلى وسائل لا تشده رغماً إلى مخلفات العصور التي مضت دون أن ننسى أن تراكم التجربة الإبداعية عبر العصور هو جزء من التراث الإنساني الشامل، والوعي المعرفي وهو جزء من التجربة.. يتداخل عناصرها الأساسية. وهنا لا يعمل التجريبيون على محو الذاكرة.. وإنما إيقاف ما هو مستهلك ورتيب ومتداول ومتشابه والبحث في خزائن التجارب الإنسانية عما هو شمولي، وذلك يفسّر بوضوح اهتمام التجريبيين «بالأسطورة» باعتبارها إنتاجا مجتمعيا.. أصيلا، له علاقة بعلم النفس الجمعي لهذا الشعب أو القارة أو لمجموع الجنس البشري. فمهما اختلفت وسائل ابتكار الأسطورة بين هذا الشعب أو ذاك من خلال الحكاية المطروحة فإن القواعد الفكرية لها ولأسباب نشوئها لا تختلف ففي أسطورة كلكامش على سبيل المثال وبعد أن غيب الموت صديق كلكامش «انكيدو» بعد ان انتصروا معا على «خمبابا» مارد الغابة.. يهيم كلكامش بحثاً عن صاحبه المغيب. فتسأله المرأة ما لي أرى وجنتيك وقد ذبلت يا كلكامش. فيجيبها: لقد سرق الموت صاحبي. فتنصحه بعد أن تراه يقف عاجزا أمام فكرة الموت ان الإنسان يقلل من وطأة الموت من خلال رعايته لولده وزوجته وبعمله. وهنا نضع أيدينا على فكرة شمولية.. لم تستهلكها العصور وإنما أعاد إنتاج المنظار الذي يمكن من خلاله قراءة تلك الأسطورة. وعلى أساس ذلك يمكن تفسير رغبة التجريبيين بالأساطير سواء أكانت إغريقية أو فرعونية أم هندية أم غير ذلك. إن عملية ابتكار الوسائل.. جعلت عملية البحث تشمل اللغة ليست لغة النص المسرحي.. إنما لغة العرض المسرحي.. ومنها لغة الجسد، وتحديد سنغرافيا العمل وطقسه، وإشاراته ورموزه وكل ذلك يدخل في باب لغة العرض.. بل إن بعض التجريبيين ذهبوا إلى ما هو أبعد، موحيا بإيجاد وشائج تربط تجربته بحركة الكواكب وانعكاساتها، وكذلك بانشطار الذات الإنسانية.. ليس بمفهوم علم النفس، بل بالمفهوم الفيزيائي.. الطقسي واعتمد على ما ينتج من صور جمالية فكرية يمكن أن تكون بحد ذاتها محوراً محركاً لإنتاج أعداد لا حصر لها من الصور التي تتوالد بديناميكية غير ثابتة.. لكنها تبقى على الدوام منتجة. فأقاموا عروضهم «فكرة في فضاء» بعيدا عن النص المسرحي.. متخلين عن لغة النص كلياً باحثين عن لغة العرض التي لا حدود لها.