لم يكن بعض كبار السن قبل الإسلام - بمن في ذلك الآباء والأمهات - يلقون الترحيب في مجتمعاتهم وفي أسرهم، ولذلك كان أسوأ ما يخشاه هؤلاء هو العقوق عندما يكونون في أمس الحاجة للرعاية. وقد أشار المؤرخ جواد علي إلى أن هذا أمر سائد في المجتمع الجاهلي، وأن المجتمع لا ينكر على الأبناء عقوق والدِيهم. يقول: «فإذا اشتد عود الولد وقوي ساعده صار الحق إلى جانبه، وصار في وسعه معارضة والده، ولن يكون في إمكان الوالد فعل شيء بعد بلوغ ابنه سوى خلعه، والتنصل منه على رؤوس الأشهاد». ورأيُ جواد هذا يتفق مع ما أورده أبو عبيدة في كتابه (العققة والبررة)، وأبو عبيدة لا يُركن إليه في هذا بسبب ما عُرف عنه من تحيز ضد كل ما هو عربي، وقد أشار إلى ذلك محقق الكتاب عبد السلام هارون. وليس صعباً أن نجد في نصوص الشعراء نماذج لعدد كبير من الشعراء تثبت حدب الآباء على أبنائهم، وحرص الأبناء على طاعة آبائهم، والاستماع إليهم، وتنفيذ ما يطلبونه منهم في حياتهم وبعد مماتهم. وتبقى حالات عقوق الأبناء آباءَهم أو أمهاتهم حالات ثابتة، لكنها نادرة، ومن تلك ما وقع للشاعر المخضرم أمية بن أبي الصلت التي سجلها في أبيات يعاتب فيها ابنه ويذكِّره بأنه من غذاه مولوداً، وسهر على رعايته ليلا، حتى إذا بلغ مبلغ الرجال تنكر له، وكأنَّ الابن هو المتفضل على والده، زاعماً أنه كبر وضعف رأيه، وهي قوله: غذوتك مولوداً وعُلتك يافعا تعلُّ بما أجني عليك وتنهل إذا ليلة نابتك بالشكو لم أبت لشكواك إلا ساهرا أتململ كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل تخاف الردى نفسي عليك وإنني لأعلم أن الموت حتم مؤجل فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنتُ فيك أؤمل جعلتَ جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل فَلَيتَكَ إِذ لَم تَرعَ حَقَّ أُبوَتي فَعَلتَ كَما الجارُ المُجاورُ يَفعَلُ فأوليتني حق الجوار ولم تكن عليَّ بمال دون مالك تبخل أما فَرغان بن أصبح بن الأعرف فعامله ابنه (منازل) بمنتهى الغلظة لأنه تزوج على أمه امرأة شابة، فغضب لأمه فاستاق ماله واعتزل معها، وكأنه يخشى على إرثه أن ينقص أو رزقه. فقال: جَزَتْ رحمٌ بيني وبينَ منازلٍ جزاءً كما يستنجزُ الدَينَ طالبُه وما كنت أخشى أن يكون منازل عدوي وأدنى شانئ أنا راهبه حملت على ظهري وفديت صاحبي صغيرا إلى أن أمكن الطر شاربه وأطعمته حتى إذا آض حشربا طوالا يساوي غارب الفحل غاربه فلما رآني أحسب الشخص أشخصا بعيدا وذو الرأي البعيد يقاربه تظلمني مالي كذا ولوى يدي لوى يده الله الذي لا يغالبه وولَّى وولَّاني عَشَوْزنَ ركنه ووجهَ عدو يقطع الطرف حاربه وما ذاك إلا في فتاة أصبتها ألا ليت أن الشيخ جُبَّتْ ذباذبه وكذلك لاقت أم ثواب الهزانية في العصر الجاهلي من ابنها أكثر، فقد مد يده إليها يضربها ويمزق ثيابها، وكأنه يريد تأديبها وهي التي تجاوزت الستين، وأمرُّ من ذلك أنه على مسمع حليلته ومرآها، فقالت معاتبة إياه: ربيته وهو مثل الفرخ أعظمه أم الطعام ترى في ريشه زغبا حتى إذا آض كالفحال شذبه أبَّاره ونفى عن متنه الكربا أنشا يخرق أثوابي ويضربني أبعد ستين عندي يبتغي الأدبا قالت له عرسه يوما لتسمعني رفقا فإن لنا في أمِّنا أربا ولو رأتنيَ في نارٍ مسعرة من الجحيم لزادت فوقها حطبا وفي العصر الإسلامي عرف المتقدمون في العمر عقوقا من الأبناء مختلفا، فالشباب المتمسك بتعاليم الدين الذي يعرف أجر الجهاد ومنزلته يتوق للمشاركة في الفتح الإسلامي، ويترك والديه - أحدهما أو كليهما - ظنا منه أنهما سيجدان من يخلفه في رعايتهما. ومن هؤلاء المخبل السعدي (ت23) فقد خرج ابنه (شيبان) للغزو مع سعد بن أبي وقاص في فتح فارس، فأرسل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يشكو له حاله، فكتب عمر إلى سعد بإعادة الابن لأبيه، فعاد ولزمه حتى وفاته. وقال أبياتا يصف بالعقوق ترْكَ ابنه إياه وهو في هذه الحالة السيئة من الكبر وضعف النظر، ويحذره مغبة ما صنع: فإن يك غصني أصبح اليوم ذاويا وغصنك من ماء الشباب رطيب فإني حنت ظهري خطوب تتابعت فمشيي ضعيف في الرجال دبيب وما للعظام الراجفات من البلى دواء وما للركبتين طبيب إذا قال صحبي يا ربيع ألا ترى أرى الشخص كالشخصين وهو قريب ويخبرني شيبان أن لم يعقني تعق إذا فارقتني وتحوب فلا تدخلن الدهر قبرك حوبة يقوم بها يوما عليك حسيب ومثله ما حدث لأمية بن الأسكر (ت20) إذ غزا ابنه (كلاب) وتركه، فقال معاتبا إياه ومبينا خطأه إذ ترك والديه وهما في أشد الحاجة له، وأن الأجر الذي يطلبه بجهاده وترك أبيه في هذه الحال لكالسراب: تركتَ أَباكَ مُرْعَشَةً يداهُ وأُمكَ ما تُسِيغُ لها شرابا فإِنك وابتغاء الأَجرِ بعدي كباغي الماء يتبِعُ السَّرابا ولما طال به الأمر قال أبياته التالية، وما إن بلغت الفاروق - رضي الله عنه - حتى كتب إلى سعد بن أبي وقاص فأعاده إليه: سأَستعْدِي على الفاروق ربّا لهُ دَفْعُ الحجيجِ إلى بُسَاقِ إِنِ الفاروقُ لم يرددْ كِلابا على شيخينِ هامُهُما زَوَاقِ وقد آلم الفرزدقَ عقوقُ ابنه ومعاتبته إياه، فقال مذكرا إياه بأن أول أمارات العقوق هي معاتبة الوالد: أإن أرعشت كفا أبيك وأصبحت يداك يدي ليث فإنك جاذبه إذا غلب ابنٌ بالشباب أبا له كبيرا فإن الله لا بُدَّ غالبه رأيت تباشير العقوق هي التي من ابن امرئ ما إن يزال يعاتبه ** **