لكي يكون للمداد على بياض الورق قيمة وتأثير يُحتفى به فلا بد أن يُستدعى على الفور القلم. والقلم منذ أن أقسم الله تعالى به وهو أول خلقه {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} فهو في دنيانا سفير العقل الرشيد وترجمانه البليغ الودود رغم كونه بصيرًا...! وهو كذلك يتبوأ مكانة سامية لدى العَالِم والمتعلم، ويَحْلم به الجاهل، حيث بِخطهِ ورسمه تزدان صفحات الأوراق بتدوين رحيق أفكار الأذهان والنظريات والإبداعات، وتمتلئ أرفف المكتبات بكنوز المعرفة البشرية التي خُطت بمداده المسكوب فراتًا تحتضنه ثمرات المطابع بكل الألوان، منذ أن اهتدى الإنسان إلى الأبجدية بكل اللغات واللهجات قديمها وحديثها! وهكذا ظل القلم طيلة عمره المديد صديقًا لصيقًا بيد الكُتّاب والمفكرين وأرباب الكتابة وأصحاب الجاه والسلطان يمهرون به الاتفاقيات والقرارات! واستقبلت المطابع منذ اختراعها 1436م ما يدلقه هذا القلم من علوم وفنون ومعارف بكل حفاوة وامتنان فانتشرت الرسائل والكتب والصحف والمجلدات وارتقت بفضله حياة الإنسان وعرف حقيقة ما ينفعه وما يضره! ورغم فضله الكبير هذا على بني الإنسان لقرون عديدة وأجيال كثيرة متعاقبة منذ خُطَّ به على الصخر وأوراق الشجر وجلود الحيوانات، إلا أنه قد طاله الجحود دون سابق إنذار في أبشع صوره في زمن تقنية القرن الواحد والعشرين فأصبح مستغنىً عنه موضوعًا على سطح المكاتب، وفي الجيوب بما يشبه الزينة العتيقة وكمالة ديكور المكاتب ونسيًا منسيًا..! وحتى أصابع اليد الثلاثة خدينته الأثيرة على نفسه (الإبهام والسبّابة والوسطى) من كل يد يمينًا كانت أو شمالاً والتي كانت فخورة بحمله إعجابًا وتباهيًا تخلت عنه طواعية واغتنمت السبّابة منها خصوصًا هذه الفرصة بكل «ميكافيلية» وتفردت بوظيفته بعد أن أحالته على التقاعد المبكر مجبراً طمعاً في مكانته وقيمته النفعية والمعنوية. وأبرمت بلهفة اتفاق مصلحة مع لوحة مفاتيح كيبورد أجهزة التقنية الحديثة والذكية وأعرضت عنه ولم تُلقِ له ولتوسلاته بالاً.!! مما حدا بمصانع إنتاجه المكلومة أن تُغلق أبوابها وتسرِّح عُمّالها مكرهة وأصبح وكأنه «صرحًا من خيال فهوى» على هامش اهتمام الناس وطلبة العلم وعشاق الكتابة، ولم يعد له ذاك البريق الأخاذ يشاهد ويُرى لماركاته وأنواعه سائلاً وجافًا. .!! وانزوى كئيبًا على أرفف المتاحف وفي دهاليزها ينتحب مستنكرًا تَنَكُّر الجميع لماضيه وأفضاله، ولم يعد ليصلحتى لهديةٍ تُلَفُّ بورق السولفان تُهْدى لصديق صدوق وحبيب أريب...فهل حقًا غابت من حياتنا الأقلام وحضرت الأقدام..؟! واقلماه... واقلماه!!!!! ** **