لا تُذكر كلمة حبر، إلاّ وينصرف الذهن إلى الكتابة التي هي إحدى أدوات العلم: بها يُحفظ وتتناقله الأجيال عبر العصور، وقد تطورت الكتابة عبر التاريخ حتى غدا الحبر أهم أدواتها إلى وقتنا هذا، فبه تسيلُ أقلام الكُتاب، وبه حُفظ الوحي المُنزل على خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم. وهو وحي أَولى العلم عناية كبيرة ميّزت دين الإسلام عن سائر الأديان والفلسفات والمذاهب. وبه تمتلئ الطابعات والمطابع الحديثة. الحبر في التاريخ كتب الإنسان على الطين والحجر والشمع والمعادن، ونقش الكتابة على الحجر وجدران المعابد والألواح الصخرية، ثم الألواح الخشبية، ثم اخترع طريقة مبسطة ومختصرة للكتابة السريعة السهلة، فكانت الهيراطيقية المشتقة من الهيروغليفية للكتابة السريعة للخطابات والوثائق الإدارية، وكانت هذه الوثائق تكتب بالحبر على ورق البردي. فكانوا يكتبون بالريشة أو القلم بعد غمسها في الحبر السائل ليكتب بها فوق الأوستراكا- عبارة عن قطعة من الفخار كانت تستخدم في الكتابة عليها لدى قدماء المصريين وكانت تفضل على ورق البردي، لأنه كان مرتفع الثمن- أو فوق ورق البردي والجلود وعسب النخل والعظام. ويعود الفضل في اكتشاف الحبر إلى المصريين القدماء –الفراعنة- حيث اكتشفوا أول الأمر الحبر الفحمي، وهو عبارة عن مادة غامقة وجدوها في أرض الكهوف أضافوا إليها الماء، ثم أضافوا إليها الصمغ. ثم صنعوا الحبر من سُخام الدخان ليحل محل الحبر الفحمي، وبإضافة الماء والصمغ أصبح الحبر حبراً على شاكلة الحبر الذي تطورت صناعته وأصبح اليوم صناعة كاملة. الحبر لغة في القاموس العربي هناك كلمتان لهذه المادة السائلة السوداء التي يكتب بها: الكلمة الأولى هي «الحبر» والكلمة الثانية هي «المداد»، سُمّي المداد مداداً لأنه يمد القلم ويعينه على الاستمداد. واليوم تستعمل كلمة حبر أكثر من كلمة مداد، إلا أن النصوص العربية القديمة تستعمل كلمة المداد أكثر. الحِبْرُ: المداد يكتب به، والجمع أحبار. يقال: حبَّرَ الشيء، أي زينه ونمقه، يقال: حبر الشعر والكلام والخط، وحبر الدواة (المحبرة): ملأها بالحبر. وسمي الحبر حبراً لأنه تحبر به الأخبار. والحبر: سائل يتخذ للكتابة أو الطباعة، سمي الحبر حبراً لتحسينه الخط، من قولهم حبرت الشيء تحبيراً وزينته وحسنته. والتحبير لغة: هو الاجتهاد في تجويد الخط وتجميله وتزيينه، فإذا قال شخص: «كتبه فلان وحبره تحبيراً»، أي: «بالغ في تجويده وتحسينه». وسمي كذلك بالمداد لأنه يمد القلم ويعينه على الانسياب والتحرك. وكان الحبر قديماً على نوعين، الأول الحبر الفحمي، والثاني الحبر العصفي المعدني، وكان يصنع من الكافور والعصف والزاج والصمغ، والمداد الأبيض كان يصنع من الزرنيخ، أو مداد السناج، ويقول ابن مقله إن أجود المداد ما اتخذ من سخام النفط. وابن البواب يقول عن صناعة الحبر: وألق دواتك بالدخان مدبراً / بالخل أو بالحصرم المعصور / وأضف إليه مغرة قد صولت / مع أصفر الزرنيخ والكافور وجاء في القاموس المحيط أن الحبر - المداد - سائل يكتب به. والحَبْرُ: العالِمُ، والجمع أحبار، وحبور، وحَبرت الأرض: كثر نباتها، وحبر الجُرح: بريء فهو حَبر. وحَبرَت الأسنانُ: اصفرت فهي حبرة، والحبر من الثياب: الناعم الجديد، وحبّر الدواة أو القلم: وضع فيه حبراً، وحبَّر المقالة أو نحوها: كتبها، وحبر الشعر أو الكلام أو نحوهما: حسنه وزينه، وحَبَرَ السهم أحسن بريه، والحَبْرُ: رئيس الكهنة عند اليهود، والحبر الأعظم: هو البابا رأس الكنيسة الكاثوليكية، وحَبْر الأمة: عالمها (وهو لقب ابن عباس الصحابي رضي الله عنه). وتأتي كلمة الحبر بمعني السرور والنعمة والأثر، وحبر الجرح: شُفي وبقي فيه أثر. والحبر من الناس: الداهية. وحبر الخط أو الكلام أو غيرهما أي حسنه وزينه. وحبر الشعر أي حسنه، والمحبر اسم لشاعر عرف بتحبير شعره، وحّبَّر: وشى وطرز. حّبَّر الثوب أو نحوه: وشاه وطرزه، والحبرة: نوع من الثياب القطنية أو الكتانية المخططة التي اشتهرت اليمن بصناعتها. والحبرة: ثوب أسود من الحرير تلبسه النساء خارج منازلهن. والحبير: سحاب ذو ألوان. ومن قولهم: «بقي كلامه حبراً على ورق» أي: لا يعتد به. ومن الحِبر(المداد) ألوان كثيرة أشهرها الأسود. الحِبر في القرآن الكريم لم ترد كلمة الحبر أو مادتها أو معناها في القرآن الكريم إلاّ وهي تدور حول العلم والعلماء، باستثناء موضعين جاءت فيهما بمعنى السرور. إذ ورد ذكر المداد، الذي هو الحبر في قول الله تعالى: «قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً» (الكهف: 109) جاءت بمعنى مرتبط بعلم الله وإحاطته وقدرته وآياته. وجاءت بلفظ الأحبار (جمع كلمة حبر: الرجل العالم بتحبير الكلام والعلم وتحسينه، والكلمة ليست حكراً على علماء الدين اليهودي، لكن العرف السائد منذ القدم أن الأحبار هم علماء الدين اليهودي، لكنها ككلمة في اللغة لم تخصص لهم دون غيرهم من الأمم) في الآيات التالية: «إِنا أنزلنا التوراةَ فيها هدى ونور يحكم بِها النبِيون الذين أسلموا للذين هادواْ والربانِيون والأحبار بِما استحفظوا من كتاب اللّه وكانواْ علَيه شهداء فَلاَ تخشوُاْ الناس واخشونِ ولاَ تشتروا بِآياتي ثَمناً قَليلاً ومن لم يحكم بِما أَنزل اللّه فَأُولئك هم الكافرون» (التوبة: 44) «لولاَ ينهاهم الربانيون والأَحبار عن قَولهم الإِثم وأَكلهم السحت لبِئس ما كانواْ يصنعون» (المائدة: 63) «اتخذواْ أَحبارهم ورهبانهم أَرباباً من دونِ اللّه والمسيح ابن مريم وما أُمرواْ إِلا ليعبدواْ إِلَهاً واحداً لاَّ إِلَه إِلاَّ هو سبحانه عمَّا يشرِكونَ» (التوبة: 31) «يا أَيها الذين آمنوا إِن كثيراً من الأَحبار والرهبانِ ليأْكلون أَموال الناس بِالباطل ويصدون عن سبِيل اللّه والذين يكنزون الذهب والفضةَ ولاَ ينفقونها في سبِيل اللّه فبشرهم بِعذاب أَليم» (التوبة: 34) وقد جاءت كلمة الحبور في القرآن بمعنى السرور في قول الله تعالى عن المؤمنين الفائزين برضوانه: «فَأَما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون» (الروم: 15) أي: يسرون وينعمون ويكرمون. وكذلك، في قوله تعالى: «ادخلوا الجنةَ أَنتم وأَزواجكم تحبرون» (الزخرف: 70). جاء الحبر في الهدي النبوي بمعنى الأثر. كما في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج رجل من النار قد ذهب حبره وسبره» (الحديث أخرجه أبوعبيد في غريبة 1/85، والفائق 1/229، والنهاية 1/327). أي: أثره ولونه وهيئته. قالوا في الحبر - يقول طاهر الجزائري الدمشقي في كتابه: توجيه النظر إلى أصول الأثر: «روي عن إبراهيم النخعي قوله: من المروءة أن يُرى في ثوب الرجل وشفتيه مداد. وذكر عن أبي إسحاق الشيرازي - شيخ الشافعية أيام نظام الملك - أن ثيابه كانت كأنما أُمطرت مداداً وكان لا يأنف من ذلك». - قال إسحاق بن إبراهيم: «ومما يزيد الخط حسناً، ويمكن له في القلب موضعاً، شدة سواد المداد». - وقال ابن شهيد: «إنما مدادكم ماء ديباجتكم وصبغة أمانتكم، فأستنظفوه استظافتكم لملابسكم، وأستجملوه استجمالكم لمصابغكم، وإنما خطوطكم خلفاء ألسنتكم وخطباء عقولكم». - قيل لوراق: ما تشتهي؟ قال: قلماً مشاقاً، وحبراً براقاً، وجلوداً رقاقاً. وكان بعض الخطاطين يضيفون للحبر ماء الورد أو القرنفل أو المسك لتطيب رائحته، ومع ذلك قال الشاعر الكاتب: مداد المحابر طيبُ الرجال / وطيب النساء من الزعفران / فهذا يليق بأثواب ذا / وهذا يليق بأثواب الحسان وقال آخر: ربع الكتابة في سواد مدادها / والربع حسن صناعة الكتاب / والربع في قلم مليح بريه / وعلى الأوراق رابع الأسباب وقال الحسن بن علي بن مقلة: «كان أبوعلى بن مقلة يوماً يأكل فلما رفعت المائدة وغسل يده، رأى على ثوبه نقطة صفراء من الحلواء التي كان يأكلها، ففتح الدواة واستأدى منها ونقطها على الصفرة حتى لم يبق لها أثر، وقال: «ذلك عتب وهذا أثر صناعة»، ثم أنشد: إنما الزعفران عطر العذارى / ومداد الدوى عطر الرجال ورأى الملك عبدالعزيز بن سعود رحمه الله في إحدى زياراته مدرسة الأمراء على ثوب أحد أنجاله بقعة حبر حاول الابن إخفاءها عن نظر والده، فقال له الملك: «لا تخفها، هذا عطرُ المتعلمين وطلبة العلم». الدواة (المحبرة) لغة يقال: دواة ودويات لأدنى العدد وفي الكثير دوى، ودواة ودوى مثل نواة ونوى، ودواة ودوى مثل فتاة وفتى، ودواة ودويات مثل حصاة وحصيات، ويقال دواة ودوايا. والدواة: المحبرة (وعاء الحبر، والجمع محابر). قال الجاحظ: حكم الدواة أن تكون متوسطة في قدرها، نصفاً في قدها، لا باللطيفة جداً فتقصر أقلامها، ولا بالكبيرة فيثقل حملها. لأن الكاتب - ولو كان وزيراً ومئة غلام مرسومون بحمل دواته - مضطر في بعض الأوقات إلى حملها ووضعها ورفعها بين يدي رئيسه، حيث لا يحسن أن يتولى ذلك منها غيره، ولا يتحملها عنه سواه. وأن يكون عليها من الحلية أخف ما يتهيأ أن يتحلى الدوي به من وثاقة ولطف صنعة، ليأمن أن تنكسر أو تنفصم منها عروة في مجلس رياسة أو مقام محنة. وأن تكون الحلية ساذجة، لا حفر ولا ثبات فتحمل القذى والدنس، ولا نقش عليها ولا صورة لأن ذلك من زي أهل التواضع، لا سيما في آلة يستعان بها في مثل هذه الصناعة الجليلة المستولية على تدبير المملكة، وإن أحرقت الفضة حتى يكون سوادها أكثر من بياضها، فإن ذلك أحسن وأبلغ في السرو (الشرف والكرامة والمروءة) وأشبه بقدر من لا يتكثر بالذهب والفضة. طرفة ذكر الخطيب البغدادي في تاريخه أنه كان للحموات في عصره شرطاً طريفاً، وهو أنه لا يجوز أن يكون للزوج - محبرة- لأن الكتابة تشغله عن زوجته وهي في رأيهن أشد أذى على الزوجة من الضرائر. من ذلك أن محمد بن أحمد المحتسب وبينما هو ذات يوم يجلس على عادته وقد أخذ يكتب شيئاً والمحبرة بين يديه، إذ أقبلت أم زوجته، فلما رأت المحبرة أخذتها وضربت بها الأرض فانكسرت وسال مدادها. فعجب الرجل من أمرها وسألها: ماذا جنت المحبرة؟ فأجابته: هذه شر على ابنتي من ثلاثمئة ضرة!