دلف إلى داخل المكتبة القرطاسية، عند زاوية الأدوات، امتدت يده نحو تشكيلة الأقلام في رفِّ العرض، أخذ واحداً، وآخر، ثم آخر يمرّر سنتها على ورقة بيضاء كان قد وضعها البائع للتجريب، خط هذا القلم سميك، وهذا حاد كشفرة السكين، وذلك لا ينساب حبره كالماء، و.. و.. توقف عن التكرار، مرر عينيه على المعروض من كل الأقلام المعدنية، البلاستيكية، الملونة، المتلفة سمكاً، ودِقَّة.. يا لجمالها، عشرات الأقلام مختلفة الحجم، واللون، كلها لمن يبتاع، صديقة المكنون الذي تفضي به، والحاجة التي تدونها، والغاية التي تحفظها، ، وما للتدوين، ما للبوح، ما للاسترجاع، ما للتوثيق، ما للحفظ، ما للتواصل، ما لكل إفضاء باختلافه.. لكن، ساءل نفسه قبل أن ينتقي قلماً منها، لماذا نشتري أقلاماً، وقد أصبحت أصابعنا أقلامنا؟! إحساس صارخ شرخ شيئاً في صدره، هزَّ رأسه يا للهول، أثمة يوم سيأتي لا نجد فيه أقلاماً لنشتريها؟!.. أسيأتي من ثم فتتوقف المطابع عن التدفق بالدفاتر، وحزم الأوراق، وما للكتابة؟ يا للهول، أيُنسى الورق كما نُسي الخط، ويتبخّر المداد في المحابر كما ثلمت مهارة الكتابة بالأصابع، واغترب القلم على الأرفف؟!.. أتختفي حزم الورق، والدفاتر، والمدونات، ومن بعد تقاويم الأيام، ووثائق الإنسان، وهويَّاته الملموسة، وكتبه المجسدة، ويصبح في عالم لا جسد فيه لورق ملموس بين يديه، ولا تفاعلاً بين أشيائه وحواسه؟!.. يا للهول، أوراقنا التي نودعها إراداتنا، خلاصات قراءاتنا التي ركنت في زاوياها، هاطل أفكارنا التي نزلت على أديمها، أرقامنا التي نحصيها في زواياها، مواعيدنا التي لا تُنسِنا إياها، بوحنا في حالاته، وتلك رائحتها الخاصة التي تبث في صدورنا بهجة النبض، تحرض دهشاتنا بموجة الشغف الذي تثيره حين امتزاجها برائحة أحبارنا الحميمة يتدفق بها الظاهر، والمكنون!!.. يا للهول، أوَ سوف نغترب عنها، نهجر مضمارها، ونتركها في مهب النسيان، تراثاً نذهب لمشاهدته في منصات المتاحف يوماً؟! وقف عند زاوية الأقلام لم يتحرك، حتى أعلن موظف المكتبة موعد الإغلاق، وهو لم ينتقِ قلمه بعد!!..