هل كان عبدالله القصيمي «يملك فكراً» أم كانت لديه «أفكار متطرفة» أوحت لنا بأنه يملك فكراً؟ ولعل البعض قد يندهش من هكذا سؤال، لكن لا مجال لهكذا دهشة؛ لأننا لو نزعنا «الهوية النجدية» من القصيمي ليكون مصرياً أو شامياً ما أصبح القصيمي «ظاهرة صوتية ذات قيمة» أو بالمعنى القريب «لم يكن ليتم تحويله» إلى ظاهرة صوتية. والقصدية من هذا التحول أو احتمالية وجود قصدية طرحها الشيخ عبدالرحمن السعدي في مقدمة كتابه «تنزيه الدين ورجاله مما افتراه القصيمي في إغلاله» يقول: «وكثير من لناس يظنون به الظنون التي تدل عليها القرائن وليست بعيدة من الصواب لظن بعضهم أنه ارتشى من بعض جهات للدعاية الأجنبية اللا دينية». إلا أن السعدي يتجاوز هذا الظن لأن انقلاب القصيمي كان انقلاباً على الدين في ذاته لا في هويته، سواء أكان الدين ينتمي إلى الإسلام أو غير الإسلام فيقول القصيمي «أهل الأديان يريدون تحويل التاريخ كلِّه إلى مبكى بعد أن حوَّلوه إلى معبد»-أيها العقل من رآك. إن قياس الأهمية والقيمة ليس قياساً شمولياً أو كلياً إنما هو قياس محاطاً غالباً بالظرف وممثلاته، فحينا هناك قيمة تنشأ مع الضرورة أو هي حاصل للضرورة، وهذا ما يؤكد عليه القصيمي عندما ربط القيمة بالضرورة كما قال في كتابه «أيها العقل من رآك» «إن القيمة هي دائمًا عين الضرورة: إنه لولا الضرورة لما كانت لأي شيء قيمة»، كما أن الضرورة هي انقلاب على الثابت. لكن أيهما استغلها القصيمي ليتحول إلى «ظاهرة صوتية» الضرورة لصناعة قيمته أو القيمة ليُصبح كونه ضرورة تحول حدّي؟؛لأن الضرورات هي حالات طارئة تتحدى المألوف و تتجاوز المُباح بالاقتضاء. ووفق ما يؤمن به القصيمي فالراجح أولهما. إن مسألة «التحول الحدّي» هي مسألة مُثيرة للجدل لأي عقل تحليلي، وهذا التحول الحدّي «من الأقصى إلى الأقصى» هو الذي أدخل عبدالله القصيمي التاريخ الفكري كنموذج «للانشقاق الفكري» أو الرجل الذي أضاع طريقه إلى الجنة وفق ماضيه الفكري، من ذات تقليدية إلى ذات متحررة، من شخصية تؤمن بالأحادية إلى شخصية آمنت بالتعددية مقابل إسقاط تلك الأحادية، من فكر انعكاسي إلى فكر انفتاحي، وحينا من فكر تزمتي إلى فكر فوضوي عبثي لايؤمن بالقيمة في ماديتها المتمثلة في الأخلاق والفصيلة إذا كانا عائقاً لحرية الإنسان ومتعته وقوته، فالنموذج «غير السوي» هو النموذج المُلهم كما يقول: «أمراضنا وآلامنا النفسية محتوم أن تتحول إلى قادة ودعاة وأنبياء. إن المصحَّات العقلية والنفسية هي أحفل المواطن بالملهَمين والإنسانيين - وأقرب الطرق إلى السماء»- أيها العقل». كان خروج عبدالله القصيمي منتصراً باكتساح بفضل مساندة رجال الدين في مصر الداعمين للسلفية والسلفيين في نجد في معركة الصوفية مع الأزهر ممثلاً في شيوخ الأزهر الذين دافعوا عن الصوفية نقلة نفسية قبل أن تكون معرفية لذلك الشاب في بداية عقده الثاني، و الذي تحدى شيوخ الأزهر بمكانتهم العلمية و انتصر عليهم مما جعله «مكاناً مركزياً في النقاش الإسلامي» وبطلاً شعبياً من ورق. كان استقرار عبدالله القصيمي في مصر أول وأهم مؤثّر في التحول المتطرف للقصيمي،فتميزت مصر في ذلك الوقت بأنها بيئة فكرية مفتوحة على كافة التيارات الفكرية الإسلامية والغربية أضف إلى ذلك بدء تسرّب روح التجديد الفكري إلى بعض أقطاب الفكر الديني وعلى رأسهم الشيخ محمد عبده وتبنيه «للعقل المعرفي في الإسلام». ودخول عبدالله القصيمي قبل انقلابه الأيديولوجي في صراع ديني مع بعض المفكرين الليبراليين مثل «محمد حسين هيكل» وكتابه «حياة محمد» الذي يتناول فيه «السيرة النبوية» بصيغة عصرية، هذا الصراع الذي تبلور من خلال كتاب القصيمي «نقد كتاب حياة محمد لهيكل» عام 1935م،أتاح له التعمق في الأفكار الليبرالية والعلمانية التي أصبح بعد تحوله الأيديولوجي مناصراً لها حتى النخاع. والعجيب أن عبد الله القصيمي بعد تحوله الأيديولوجي نجد في كتبه بعد التحول ملامحاً من التأثر بما ذكره هيكل في كتابه «حياة محمد» فيما يتعلق بواقعية المعجزات وتأثيرها العقلي على نفوس المؤمنين، والتشيك في جذور صدقية الرواة ومتونهم،وتهميش نموذج المقدس وسلطته. بل وبما ذكره الليبراليون ممن هاجم القصيمي أفكارهم ومواقفهم ليُصبح بعد تحوله» يتبنى مواقف كانت «مقتصرة على ممثلي الليبرالية السياسية و أنصار العلمانية الجذرية» -المتمرد على السلفية- هذه الفترة أي نهاية الثلاثينيات و بداية الأربعينيات بدأت مصطلحات فكرية تظهر في الميدان الفكري العربي في مصر ولبنان مثل الإنسانية والحرية والعقلانية والعقل والعلمانية. مصطلحات تُحرر الفرد من سلطة العقل الجمعي الذي غالبا ما يتركز في «الدين»، «فعقائد الإنسان ومُثُله التي آمن بها حينما كان يروِّعه خسوف القمر لا يمكن أن تظل هي عقائده ومُثُله بعد أن أصبح يصنع الأقمار ويغزو الفضاء»-عبدالله لقصيمي-»من رآك أيها العقل». وهكذا بدأت الملامح الأولى لانفصال القصيمي عن «اللازمة الدينية» نحو العلمانية التي تخلق داخل الفرد القدرة على الاستقلال الفكري «فليس من شيء فوق العقل» كما يقول. ولذلك يقدم العقل على الدين باعتبار أن العقل أسبق في معرفة الدين والحكم عليه وهو ما يعني أن العقل يملك نزاهة الصدق والعدل في حكمه ولو اعتبر غير ذلك للحكم العقلي فهذا يعني كما يقول: «ولو شككنا، مع هذا الافتراض، في العقل لكان هذا تشكيكًا في الدين نفسه على ما سبق». -أيها العقل- كان اقتراب عبدالله القصيمي من المتدينين المصريين الداعمين للسلفية في شبه الجزيرة العربية في مصر أكبر تأثيرا في التحول الفكري للقصيمي وإن كان بطريقة غير مباشر. فكانوا أول من شجع الفكر التطرفي عند القصيمي من خلال استخدامه كرمح محارب في خلافاتهم الدينية سواء مع الفكر الأزهري ثم بعد ذلك الفكر الليبرالي، فكان «محمد رشيد رضا» الأب الروحي للقصيمي هو المحرض له على اقتحام الصراعات الدينية فكان رشيد رضا خصما للأزهرين فقد اتهمهم «بأنهم غير قادرين على تعليم الإسلام الحقيقي، ولا تفسير نصوصه أو فهمها» وأيضا كان رشيد رضا خصماً لمحمد حسين هيكل وكل صاحب فكر ليبرالي. إن منطقة الانتقال بين مرحلتي التحول الأيديولوجي لعبدالله القصيبي تكاد تكون غامضة ولذا فهي منطقة قد تستقبل كافة الاحتمالات والتأويلات التي تتوافق مع النتيجة نهاية المطاف. في كتابه هذه الأغلال يُمكن أن نلمح بعض ملامح هذه المنطقة الغامضة فيقول» ولقد فكرت في هذه المسألة تفكيرا شاقاً مضنياً» ويقصد بالمسألة حال المجتمعات العربية «منذ ست سنوات أو تزيد، و رأسي يلتهب بالتفكير فيها التهابا، ملقبا لها على كل الوجوه،.. ولقد اجتهدت أن أدرس درسا دقيقا من كل وجوهها واحتمالاتها..والإلمام بأسبابها في الكتب، درستها في التاريخ الخاص و العام، ودرستها في نفوس المسلمين، في نفوس الخاصة والعامة المتعلمين والجاهلين، والآخذين معارفهم عن الشرق أو عن الغرب،». ولعلنا يمكن القول إن «ست سنوات» كانت مدة هذا مخاض هذا التحوّل الحدي الذي جعله يكتشف كما يقول في مقدمة هذه الأغلال «من الجائز أن أكون قد أخطأت أو بالغت في بعض المواضيع». «ست سنوات» ليكتشف «أن الجهل الاعتقادي» قد «ضرب القوم «عقداً فوق عقد» و«أفضل ما يعمله المرء أن يحلّ عقدة من هذه العقد»- هذه الأغلال-. وبقوله هذا يحول مقعده من المؤيد إلى المعارض. وهو جهل قاد المجتمع إلى ثلاث نتائج «أولها الإعاقة عن السير إلى الغاية المنشودة، و ثانيها أن يوجه جهة أخرى مضادة، وثالثهما إفساد العقل».-كتاب هذه الأغلال ص6، الجمل عام 2000-. وبهذه الأفكار تحوّل عبدالله القصيمي بين ليلة وضحاها عند الليبراليين إلى «بطل من ورق»، وعند الدينيين «الرجل الذي أضاع طريقه إلى الجنة». ... ... ... ... المراجع: التمرد على السلفية. يورغن فازلا.ترجمة محمد كبيبو. هذه الأغلال - عبدالله القصيمي- منشورات الجمل. أيها العقل من رآك - عبدالله القصيمي- دار الانتشار العربي