المتأمل لتاريخ شبه الجزيرة العربية، سيلاحظ أنها دلفت إلى دائرة النسيان والتهميش منذ خروج علي بن أبي طالب رضي عنه إلى الكوفة عام 35ه، بما في ذلك مكةالمكرمة والمدينة المنورة، ولم يعد من نصيبها سوى المكانة الروحية، وتوجيه الصدقات والأوقاف للمدينتين المقدستين، دون اهتمام يليق بهما وبشبه الجزيرة العربية؛ تساوى في هذا الإهمال الدولة الأموية، العباسية المملوكية والعثمانية. عصر النهضة الإسلامي الذي نعده مظهرا مشرقا في تاريخنا الإسلامي، ونباهي به الحضارات الأخرى، لم يمر بشبه الجزيرة العربية، ناهيك عن توقفه فيها بجامعة أو مستشفى، أو أي معلم من معالم الازدهار المادي الذي نقرأ عنه على شاكلة مخترعات ومكتبات، ومتاحف وأسواق وغيرها، بل إن العصر الجاهلي حفظ للجزيرة العربية معلقات الشعر، ودواوين العرب وأيامهم الخالدة، ودار الندوة، ومركزية قريش، وحكماء نجد، وفرسانها بينما أهملت تماما في العصر الإسلامي. ومن غرائب العرب أنهم عندما اكتشفوا جنان الحياة الدنيا هاجروا إليها تاركين خلفهم الدور الدارسية، وتجاهلوا مقدساتهم التي كان ينبغي أن تكون حواضر للنهضة ومراكز للتنوير. أي مؤرخ معاصر منصف سيتوقف عند المعجزة التي حولت شبه الجزيرة العربية، قاحلة الموارد الطبيعية، إلى واحدة من أكثر البيئات صداقة للحياة، تستقطب ملايين البشر من جميع أنحاء العالم، وتنفق على ملايين البشر المقيمين في بلدانهم عن طرق تحويلات العاملين في المملكة العربية السعودية. وأي مراقب موضوعي سيكتب عن المعجزة التي حولت بها المملكة العربية السعودية وضع بقعة فقيرة في مواردها المائية، وبالتالي زراعتها ورعيها، قاسية في تضاريسها الطبيعية، جاهلة في التعليم، معزولة عن العالم، إلى واحة للحياة تهفو إليها الأفئدة. تضاعف سكان المملكة العربية السعودية من نحو 3 ملايين إنسان عام 1950م إلى أكثر من 30 مليونًا حاليًا، وارتفع عدد الحجاج القادمين من الخارج من 100 ألف تقريبًا عام 1950 إلى نحو مليوني حاج في السنوات الأخيرة بعد التوسعة وقبل الجائحة. فهل يمكن مقارنة الدولة السعودية في نقلتها النوعية لشبه الجزيرة العربية بأي من الدول الأموية، العباسية، المملوكية، أو العثمانية؟ إنه ضرب من الإعجاز تستلزم الموضوعية ذكره وتوثيقه على أن وصل لشبه الجزيرة العربية بمكانتها في عهد الخلافة الراشدة. السعودية التي ولدت من رحم المعاناة والإصرار، ونمت وتطورت بسواعد أبنائها، تتسنم اليوم موقعا متقدما بين الدول الحديثة كواحدة من أكبر عشرين اقتصادا في العالم، بناتج محلي سنوي يتجاوز 1.6 تريليون دولار، هو السابع عشر عالميا، و100 % من سكانها يحصلون على الكهرباء بطاقة إجمالية بوأتها المركز الحادي عشر عالميًا متقدمة على بريطانيا وإيطاليا وتركيا، وجميع الدول العربية والإسلامية. وتقود المملكة دول العالم في تحلية مياه البحر، وفيها أكبر منشأة تحلية مياه مالحة في العالم، ومع هذا العناء في توفير المياه فإن 100 % من المواطنين والمقيمين يشربون مياها نظيفة. السعودية تتبوأ اليوم موقعا متقدما في التعليم العالي حول العالم، وعدد من جامعاتها حافظت على الصدارة في قوائم الجامعات الأفضل، وبعضها هو الأفضل عربيًا وإسلاميًا رغم حداثة تأسيسها، وفي كل يوم نسمع عن إنجازات طبية وبحثية، وعن شباب سعوديين يسجلون منجزات على مستوى العالم. بهذه المنجزات التي لم يكن ممكنا تخيلها قبل مئة عام، وتحققت وسط أطماع ومنافسين وأعداء، وأصدقاء طامحين، تموضع السعودية نفسها رقما صعبا في منتصف الكرة الأرضية، فهل يحق القول إن الدولة السعودية انتشلت شبه الجزيرة العربية وبخاصة المقدسات الإسلامية من التهميش الذي بدأ عام 35 هجرية، إلى السيادة في القرن الواحد والعشرين الميلادي؟ لا أجد من التفسيرات ما يرقى إلى مستوى المنجز المحقق سوى توفيق الله، ثم الحكم الرشيد الذي حقق للتنمية الأمن والاستقرار، وتكافؤ الفرص. ولأن أعمار الدول تشبه أعمار المخلوقات الحية، فقد وصلت المملكة بعد مئة عام على تأسيسها إلى استحقاق لا يمكن تأجيله وهو تجديد الدماء في شرايينها لبدء مرحلة جديدة من تاريخها وسط تحديات ضخمة لا ترحم المستكين، ولا تحترم الضعيف. والمملكة منذ تولى الملك سلمان مقاليد الحكم، ووضع الأمير محمد بن سلمان رؤية السعودية 2030 وهي تتجدد، وتنّوع مداخيلها، وتفعّل طاقات أبنائها وبناتها، وتحدث تغييرا حقيقيا بخروجها من مناطق الراحة إلى ساحات التحدي والتغيير لتؤكد أنها قوة فاعلة لا يمكن تجاهلها.