النسيان، والعجز يفوّتان الفرص على الكاتب. والمتابع. في هذه السن تفر المواضيع من بين يدي حتى لا أجد ما يناسب المتلقي. على الرغم من أن المشهد زاخر بالقضايا المثيرة، ولكنّ ثمانينياً مثلي يتوكأ على عصاه قد لا يبلغ ما يبلغه شاب في ذروة الكهولة، لست بدعاً من الكتاب، لقد استمعت ل(طه حسين) و(العقاد) و(حمد الجاسر) و(ابن خميس) في عنفوان كهولتهم، واستمعت إليهم في خريف شيخوختهم، وأدركت الفارق بين المرحلتين. عندما نبهني (أبويزن) للزاوية، وقد طلبت منه ذلك، كنت قد فرغت من قراءة (وضاح اليمن) في (حديث الأربعاء) ل(طه حسين)، وهو الكتاب الأكثر إثارة وانتشاراً، وتكريساً لمؤلفه في المشهد الثقافي، لأنه يمثل الريبة والشك في دوافع تأليفه، المتابعون يعرفون فوق ذلك عن المؤلِف، والمؤلَف، ولسنا بحاجه إلى التكرير. حديثه عن وضاح، مغرق في الأسطرة والخرافة، ولم تعجبه في شعره غير قصيدتين، مع شكه في ثبوت شخصيته. كنا نتوقع منه الشك في الشعر، أما الشك في الوجود الشخصي فأمر لا يحتمل، قصيدتاه لا يمكن نحلهما لأنهما من الروعة بحيث لا يمكن أن يفرط بهما مبدعهما. وحتى طه حسين انبهر بهما. لقد استفرغ الأغاني للأصفهاني بأسلوب ممتع، ومناسب للعصر، وللقارئ، ولكنه تلاعب في الحقائق، وشكك في الثوابت، وكاد أن يغيب أجمل النصوص فضلاً عن التشكيك في بعضها بناء على فرضيات مجتثة، تابع فيها المستشرقين، بل سرق أقوالهم. جنايته على الأدب أخطر من جناية (أحمد أمين) الذي وصف الأدب العربي بأنه (أدب مَعِدَةٍ) ورد عليه (زكي مبارك) بنقد هجائي يشبه سفود (الرافعي) مع أن طه حسين أجرم بحق (مبارك) وحرمه من أبسط حقوقه. المشهد النقدي زمن العمالقة مشهد مريب وغير نزيه. وإذا تجردنا وقلنا ما نرى ثارت ثائرة الذين يجهلون الأوضاع. خذ الرأي المخالف، ولا تسلم له، المشاهد تتسع للرأي، ونقيضه. وبدون الخلاف تذبل شجرة الأدب، وتذروها الرياح الحيوية بالاختلاف. وهو في النهاية أكل عيش. الأدباء في القديم تطارحوا القضايا، واختلفوا فيما بينهم، وما أحد سخط من أحد. أجمل الموفقين بين الآراء، (عبد القاهر الجرجاني) في كتابه (دلائل الإعجاز) الذي شكل منعطفاً بلاغياً أهمله مجايلوه..!