«المعلم» نعت عريق في ذهنية الأمم المتحضرة، وكان وما يزال بمثابة الأستاذية الفخيرة، التي منحها المجتمع عن قناعة منه، قبل مؤسساته، لرجال سياسة، وفلاسفة، وأصحاب نبوغ وأرباب فرادة في مختلف العلوم والفنون، ومن عاش - كمحاكيكم- في الحجاز، سيدرك معنى كلمة «المعلم»، بمفهومها الشعبي، ودلالاتها الاجتماعية، وعلى الرموز (الندرة)، الذين منحهم المجتمع الحجازي (فخرية) الأستاذية احتفاء بالمُنْجَزِ.. وتكريماً للمُنْجِزٍ.. فهو حينها العلم الذي لا تخطئه أبصار العامة.. ولا بصائر النخب! ولربما كان لثنائيي الشعر، والصحافة، ما منحني خصوصية الإطلال على فضاءات من التجربة الشعرية، لمعلمي سعد الحميدين، وعلى ستة عقود من عطائه الصحفي. أول حكاياتي مع المعلم، عندما انتقلت إلى الرياض لإكمال دراسة الماجستير، وكنت حينها قد عملت مع «الرياض» لعامين، وعلى عادتي مع الصحف والمجلات التي لم أعمل داخل كياناتها، فقد كنت على منهج طه حسين، فسواء أخذ ما أُرْسِله طريقه إلى سيور المطبعة، أو سلال المهملات، لم أفكر يوماً أن أهاتف قسْماً بهذا الشأن، لأنني «متعاون» وهي القوة التي لم أفقدها لخمسة وعشرين عاماً، وما جعلها قوة على المستوى العلمي، والعملي، تخصصي في اللغة العربية في النحو والصرف، واستكمال هذه القوة بالدراسات العليا في الصحافة والنشر الإلكتروني، والممارسة الصحفية التي بدأت دون تخطيط منذ أن كنت طالباً في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، وهذا ما جعلني ايضاً رحالة بين المؤسسات الصحفية، أنتزع بالعمل.. العمل، وأنزعه متى لاح لي انقطاع أمل، وبهذه الذهنية التي ترافقني، جئت أول يوم أدخل فيه إلى مؤسسة اليمامة الصحفية، التي كانت مرحلة جدية وإن سبقها عامان، وهو اليوم الذي التقيت فيه لأول مرة بالصديقين: عبدالعزيز الصقعبي، وعماد العبّاد، رغم ما تخلل العامين من اتصالات تخص التحرير، إلى جانب اتصالات المشرف على قسم الأدب الشعبي، الصديق علي الموسى، فدائماً ما كانوا المبادرين بالاتصال، أما أنا فكنت وسأظل على منهج عميد الأدب في أقسام الأدب خاصة. غادرت الصديقين إلى مكتب الحميدين، فلم أجده، فوجدتها فرصة أن أتحدث إلى نائب رئيس التحرير حينها أستاذي الدكتور عبد المحسن الداوود، تحدثنا لقرابة ربع ساعة، ألحُ عليه بانضمامي إلى قسم المحليات، إن كان ولا بد من الضم إلى أحد الأقسام، وأن أسهم بما يتم التنسيق فيه مع الأصدقاء في القسمين (الثقافي - الشعبي)، على ألا أكلف بحضور مسائي يومي الزامي، فوجدت منه صلابة لم أفلح معها في إقناعه، ووجد مني إصراراً عندما قلت له: سبق وأن عملت في الصفحات الشعبية، والثقافية وأقسامها، وخرجت بكل قناعة من «أوسع» أبوابها، وبأنني سأشرع في دراسة الماجستير، فليبق الحال إذاً كما هو عليه في التحرير للثقافة والأدب الشعبي والمحليات، فأجابني: بعد غد الظهر تأتي إلي. حضر صاحبكم وإذا بين يدي الداوود كم مطبوع من مواد التحرير، أظنها كما رأيت، ومما قرأه من عناوينها، مواد آخر ستة أشهر، ومع آخر عنوان توقف عنده، فاجئني قائلاً: لا تجادل يا مرزوقي، وهيا معي، سرت معه إلى مكتب المعلم، فسلم الداوود قائلاً: يا أبا نائف، هذا ابنكم محمد المرزوقي، وسينضم للعمل معكم.. رحب الحميدين، بابتسامته العريضة، وببشاشة تفيض وداً وصدقاً، وبلهجة «حجازية» أدهشتني! غادرنا الداوود، وجلست إلى الحميدين، أتأمل بساطة هذا العملاق، وحميمية هذا الرمز الأشم، وهو محلق بين ظرائف ولطائف.. ثقافة وصحافة.. تقليد وحداثة.. وأعلام وإعلام.. غادرت مكتبه وكأني أعرفه من سنوات.. وأنا أقول في نفسي: أول مرة أعرف أن الحميدين حجازيّ! ولعقد مع الحميدين كنا نلتقي خلاله ستة أيام في الأسبوع، ظل المعلم، والأخ الأكبر، والصديق الوفي وما يزال، فكم مساء اجتمعنا مع رفاق الثقافة إلى ضوء قصائده الجديدة، و»لمحاته» العميقة الوقادة، ولطالما تحولت المساءات، إلى متون على متن العمل اليومي، التي كان يشعل قناديلها الأستاذ تركي السديري - رحمه الله - ولعقد من العمل اليومي، لم أسمع مقترحاً، أو تكليفاً شعرت فيه بأن (النائف) أبا نائف، يحدثني بوصفه ذلك الرمز العربي، أو بصفته رائداً من أساطين الحداثة، ورموز الصحافة في المملكة، فضلاً عن كونه مدير تحرير، وأحد أركان مؤسسة اليمامة الصحفية، فقد كانت عبارات الطرفة باللهجة الحجازية تارة، وغامد وزهران أخرى، واللهجة العسيرية حينا.. نغمات ود.. ونغم لعمل يومي مبهج.. ما زاد من يقيني، بأن الثقافة قيم وقيام،.. رموز ورسوم.. ادونها اليوم بمداد قطرة من أول الغيث، عن (المعلم) سعد الحميدين. ** **