تحدثت في المقالين السابقين عمَّا تحدثه لغة الجسد من أثر في نقل الرسالة، تصيب بتشويش المتلقي في تحديد المعنى المراد وكان ذلك في الحديث عن الحركات المصاحبة للكلام وهي تناقضه بغض النظر عن الباعث لها أو عن تجليها في عمل الممثل. ولا يختلف القول في حركات الجسد في الحياة اليومية عمَّا يقال في عمل الممثل، وإن كان الفرق يكمن في صلة كل واحد منهما في الحياة الواقعية، فقد يقوم الإنسان سواء كان متحدثاً أو صامتاً بحركات يقصد منها إيصال رسالة خاصة لمتلق معين، وتكون ذات دلالة معلومة. ونحن لا نقصد هنا «لغة الصم» ذات الرموز التواضعية المعروفة والنظام اللغوي الدقيق، وإنما نقصد حركات تختلف باختلاف المقام، واختلاف المرسل والمستقبل، وفيها قدر من الارتجال، وإن كانت تأخذ طابع التكرار بمعنى أن مستعملها قد يستعملها في موضع آخر وتحمل الدلالة نفسها، وقد يستعملها مستعمل آخر دون سابق اتفاق على المعنى والشكل، وقد تكون محاكاة لحركة جسد معينة في بعض المواقف حتى ولو لم تكن حقيقة ناتجة عن الفعل نفسه من مثل احمرار الوجه عند الخجل، فقد يستخدم هذا اللون للتعبير عن الشعور بالخجل والخزي من فعل ما حتى ولو لم يكن في الحقيقة ناتجاً عنه، أو الضحك الذي ينتج عن فعل يدعو إليه، فعند التظاهر به على الرغم من عدم وجود سببه يعني السخرية والاستهزاء بناء على مشابهة ما قام به المتلقي لما يضحك. وهذا الترابط بينها وبين الحركات الطبيعية هو ما يعطيها قدراً من السيرورة بين الناس، ويساعد في إيصال الرسالة للمتلقين، وجعلها مفهومة لديهم. ويتصل بهذا ما يُسمى أيضاً «بلغة الجسد»، ويعدها بعضهم من الحركات التي يقوم بها الإنسان دون قصد ولا شعور من مثل أن جمع اليدين ووضعهما على الصدر في حالة الجلوس مع الناس تعني اتخاذ موقف محايد من الحديث الدائر، ومحاولة الخروج والانعزال عن الأشخاص المتحدثين في حين فتح الذراعين ومد الكفين يعني غاية الانفتاح والترحيب بالطرف الآخر. وهي حركات كثيرة أو مفردات -إن صح التعبير- تُؤخذ في الغالب بوصفها مساندة للغة الكلام أو للكشف عن مشاعر الشخص المتلبس بها دون أن تكون ذات قيمة مستقلة بحد ذاتها إلا في سياق معين، وكتبت فيها الكتب. وقد تكون هذه الحركات مشحونة ببعد استعاري أو رمزي بحسب ما يمثّله الجزء من الجسد من دلالة، فالعين تدل على القيمة، والرأس يدل على العلو والأهمية ونحوها من الأعضاء والوظائف المختلفة مما يعني ارتباط الدلالة بموقع العضو لدى الناس وارتباط اللغة بهذا المعنى. وقد لا يكون الفعل متصلاً بهذه المنظومة -ربما- اللغوية، ولكنه يحمل معنى محدداً أيضاً من خلال ما يحدثه في نفس المتلقي من مثل إخراج طرف اللسان قليلاً مع فتح الفم، وربما صحبه ميل في الوجه أو الشفتين إلى الجهة اليمنى أو اليسرى، وهي للدلالة على الاستخفاف بمن وجهت له هذه الحركة أو عدم الثقة به، أو مثل رفع الشفتين وإغلاق مجرى الهوى بالحنجرة وإظهار صوت خفيف للدلالة على الاستهجان أو استبعاد وقوع الشيء. أو قد تكون مرتجلة يقوم بها المستعمل منطلقاً من السياق دون أن يكون لها معنى محدد غير ما يمكن أن يشحنها به المتلقي أو يقصد بها المستعمل، فتكون وسيلة مبتكرة للتواصل بين طرفين لإيصال رسالة معينة. وفي الوقت الذي تستمد فيه الأنواع السابقة قيمتها من المنظومة التي تنتمي إليها إن «لغة الجسد» أو محاكاتها بصورة تحاول أن تستثمر معناها أو أن تقوم على استثمار معنى اسم العضو وتوظيفه دلالياً، يأتي النوع الأخير بوصفه نوعاً مستقلاً لا يحمل في تكوينه أدنى سمة دلالية، وارتباط بمنظومة معينة، وإنما معتمد على ما يمكن أن أسميه بالخروج على السياق العام لوضع الجسد وإحداث خرق بنظامه العام في تلك الساعة ما يمثّل شفرة تستحق التأمل والتفكير خاصة إذا ارتبطت هذه الشفرة بمعنى خاص في نفس المتلقي أو صاحبت حركة أخرى ذات بعد دلالي في نفس المتلقي، فإذا كان بعضها يحدث في نفس المتلقي معنى خاصاً فإن هذه الحركات تكتسب قيمتها من خلال ارتباطها بوعي المتلقي وخبراته السابقة ما يجعل لهذه الحركة قيمة في إثارة تلك النوازع وتهييجها. على أن القيمة الحقيقية لهذه الحركات فيما نحن بصدده تتصل بتوظيفها إذ إنها بقدرتها على النفاذ إلى وعي المتلقي، وحملها رسالة سرية خاصة غير منطوقة ذات أوجه مختلفة تستطيع أن تستثمر مكوناته (الوعي) وخبراته السابقة في التشويش على المتلقي وإيصال رسالة مبهمة للقيام بما يمكن أن أسميه التدمير الذاتي من خلال بعث الريبة في نفسه حيال من حوله ودفعه إلى القيام بأعمال غير منطقية ولا معلومة السبب بناء على هذه الرسالة المبهمة التي تجد صدى في نفسه اعتماداً على تجاربه السابقة، وهنا تكمن المهارة في الوشاية وعبقرية هذا النوع منها بقدرتها على الإشارة المبهمة البعيدة عن المحاسبة خاصة حين تتصل بطرف ثالث يكون ضحية هذه الإشارة.