كنت صغيرة تملأ قسمات وجهي آيات البراءة وحكايات الطفولة كنت دوماً كالبلبل الصداح والهدهد المفراح اقر أعين أهلي وأسر قلوب من حولي لا يكدر خاطري مكدر ولا يعكر صفو حياتي معكر كنت كالزهرة مشرقة راوية نقية يانعة كنت لا احمل هم الدنيا ولا الآخرة لا أتمنى إلا اقتراب أهلي مني ويداً حانية تربت على كتفي وتأخذ بيدي إلى ساحة الحياة المشرقة التي كنت أراها دائماً أمامي نعم كنت أعيش في كنف أهلي قد كفوني هم عيشي مقتربة قلوبهم جميعاً من قلبي ينظرون إليَّ نظرة ملؤها الحب والعطف والحنان لأني كنت في أنظارهم طفلة لا تعي من الحياة وما فيها إلا هذه الكلمات.. لله درها من كلمات.. تعلمت في كنف أسرتي القرآن وعلومه، والشعر وأوزانه، والنثر وألفاظه، والعلم وآدابه، نعم.. كانت أيامي هانئة هادئة.. حتى جاء المصاب الجلل، ودب في قلبي الخلل، وداهمت جسمي تلك العلل، فأصبحت حياتي كلها ملل، وما لبثت أن لازمني الاكتئاب وقضى ربي رحمة منه سد الطرق من كل باب، فضاقت بي الأرض بما رحبت، وصغرت في عيني السماء بما حوت.. فمات أبي ذلك اليوم.. فجاء الخريف بجفافه، وولى الربيع ببهائه، واقبل الوداع بأعصاره، وأدبر الوصال بنسيمه وهوائه. أرقت وبات ليلي لا ينام صبيحة قيل قد مات الحبيب فداخل الألم بموته فؤادي، وتباعدت خيوط الأمل بوفاته عن قلبي، ووشحني الليل بعد فراقه بوشاح الألم، وغطتني فيه سحائب الظلم، أأنس في ذلك الليل وحيدة لا يشاركني فيها أحد إلا شعاع القمر! ولا يؤنسني فيها من الأفراد فرد إلا السهر! أما عن النهار فحدث وأكثر ولا تخف عذل ولا عتب.. كنت ولا أزال فيه كالطير حين يحوم، وكالحمام حين يهيم نعم.. هكذا كانت حالتي! أتنقل في غرفات المنزل غرفة غرفة، أتذكر فيه الذكريات، وأوزع زهر شوقي بين الجنبات.. ولسان حالي يقول: كل الزوايا تحمل الذكرى والنفس حبلاً بما أبكاني.... الناس من حولي يضحكون، والشاعر من بينهم يبكي ثم يخيم الصمت على كل الناس وأنا من بينهم أحكي لوحدي فقط لا جليس، ولا انيس، ولا مؤوي ولا كافي إلا الله «أي والله هذا ما حصل». وبقيت على هذا الحال. كذاك أمور الدهر وهي عجيبة فلله دهر ولا تزول عجائبه.. فلله در الحياة كم عاينتها وعانيتها.. ونمت على فراش آمالها.. وصحوت على تغريد بلابل آلامها.. نعم هي الحياة.. داهمتني بما لم اكن يوماً أتوقعه أو حتى للحظة أتخيله، ولكنني بعد هذه الصعاب صابرة محتسبة بالله مستعينة عليه متوكلة، قال جل جلاله {إنَّ اللّهّ مّعّ الصَّابٌرٌينّ، الذٌينّ إذّا أّّصّابّتًهٍم مٍَصٌيبّةِ قّالٍوا إنَّا لٌلَّهٌ وّإنَّا إلّيًهٌ رّاجٌعٍونّ}. ولا أنسى من لهم فضل بعد الله تعالى وهم معلماتي.. وصويحباتي .. حين قلن: تصبر أيها العبد اللبيب لعلك بعد صبرك ما تخيب وكل الحادثات إذا تناهت يجيء وراءها فرج قريب فأجبت قائلة: صبرتني ووعظتني وأنا لها وستنجلي بل لا أقول لعلها فاستبشروا احبة قلبي فما كان لي إلا أن قلت «اللهم ارزقني جليساً صالح وأنيساً ناصحاً». فأجابوا لي جميعاً بلسان واحد: أخاك الذي ان سرك الدهر سره وان غبت يوماً ظل حزيناً فأجبتهم: وما مسني ضر ففوضت أمره إلى الملك الجبار إلا تيسرا وبعد ذلك عزمت وعزمت... لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى فما انقادت الآمال إلا لصابر ثم ذكرت الله الواحد... ولسان حالي يقول: رباه فاجمع لنا الأحباب في عدن ذاك اللقاء فلا هم ولا كدر ثم بعد ذلك قرت عيني، وسكن فؤادي.. واستبشرت بقوله تعالى {إنَّمّا يٍوّفَّى الصَّابٌرٍونّ أّجًرّهٍم بٌغّيًرٌ حٌسّابُ}. وآخر الكلام مسك الختام أدعو الله أن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والأموات وأن يجمعنا بهم في جنات النعيم أنه سميع عليم.