يعتقد بعض من عركتهم الأيام وخذلهم الأقربون ومن كانوا يعتبرونهم أصدقاء، أن التعاسة قد حطت رحالها في مضاربهم وأنها لا تعتزم الرحيل أبدا، فيصبحون بهذا الاعتقاد المغلوط فريسة للإحباط والقنوط فيتكدر عيشهم وتفارقهم البسمة ويظل وجه الواحد منهم مسودا وهو كظيم، كمن بُشر بأنثى في الجاهلية، يحيل بيته إلى مأتم وهم وغم فيعتزل الناس ويعتزلونه ويتخذ من الشؤم جليساً وأنيساً، فيعيش ميتاً مع الأحياء كما لو كان هو الوحيد الذي افتقدته عوادي الدهر وبنات الأيام وأن كل من حوله يرفلون في ثياب العز والهناء وأنه وحده من استهدفه الكدر والبلاء!!.. وآخر يتنقل في أجنحة السعادة من جناح إلى جناح ويقطف ثمار النجاح تلو النجاح، وتراه على كل غصن مغرد يومه هناء وسرور وليله فرحة وأنس وحبور، رغد العيش وهداة البال تغني له كل يوم موالا، ولم لا يفرح وقد أنعم الله عليه بالبنات والعيال ومال الحلال لا دائن يقرع عليه الباب ولا مشاكل مع الأصدقاء والأحباب، ويعتقد أن شهور العسل أبدية سرمدية وأن الحزن لن يقرع بابه أبداً على اعتبار أنه السعيد ابن السعيدة، فإذا مشى يتراقص طرباً ونشوة يسمع عن نكبة فلان ومرض علان، يتأسى لهذا وذاك وكرمه مزهر وبيته عامر وفضاؤه بحر وخياله مركب، وهو الربان يتنقل بين الخلجان والشطآن كعاشق متيم ولهان، كل يوم على موعد مع الأفراح والليالي الملاح!!. وجاهل صاحبنا الأول، وواهم رفيقنا الثاني، واهم من يعتقد أن الشقاء هو اسمه الثاني في شهادة ميلاده لأن الله يقول {إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا}، فهل وصل به جهله إلى درجة صار على قلبه قفل لم يعد معه يستوعب شيئا؟ وواهم رفيقنا الذي فاته قول المولى عز وجل {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات} واهم بمثل وهم عمرو بن كلثوم الذي يشرب هو وجماعته إن وردوا الماء صفواً ويشرب غيرهم كدراً وطينا، كأنهم لا يعرفون أن الدهر مختلف يدور فلا حزن يدوم ولا سرور، هكذا هي الحياة إذن دلو ماء ودلو طين، مرة تعطيك على قفاك ومرة تقبل محياك، مرة تبكيك ومرة تغريك ومرة تغويك، مرة تقدم لك الحنظل وتسقيك المر ومرة تقدم لك العسل في شمعه، مرة تصفعك وأخرى ترضعك، فهل هيأنا أنفسنا لهذا وذاك؟ نطعم أولادنا للحصبة والجدري والشلل وغيرها من الأمراض، فهل طعمناهم وهيّأناهم لأمراض أشد فتكاً، أمراض لا تنال من أجسامهم ولا عقولهم لكنها تنقلهم إلى خانة الأموات وهم أحياء يتنفسون ويشربون ويأكلون!!.. ننسى أن المؤمن مبتلى فأول ما يخطر ببالنا أن غضباً من الله حل بنا، يعتقد بعضنا أننا لا نكون قريبين من الله إلا بالحمد والشكر وننسى أن مفتاح الصبر ربما أكبر من مفتاح الشكر، ورب العزة والجلال يقول في محكم التنزيل {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}، ننسى أن كل الأنبياء والرسل تعرضوا لمصائب ونكبات وابتلاء عظيم ونحن لا نريد أن يمسنا السوء!!..