في الجزء الأول كنا قد تعرضنا لملامح المجتمع الفيفي بأساطيره وواقعه المروي الخالد بالأذهان والمجالس، وكانت أسطورة «سندريلا الفيفية» هي الجزء الأول. وهنا وبهذا الجزء الثاني نستمر في نقل الجبل الفخم بكل ما فيه إلى قلب القارئ والمتابع لعله يستلهم ما فاته من قديم الزمان. وتستمر الحكايات من سفوح فيفاء المليئة بالأساطير الخالدة والمؤثرة وأسطورتنا الثانية هي: «أسطورة السُهرة» وأرويها لكم عن سندها المتصل عني، عن عبدالله بن حسن بن فرح الفيفي عن والده، عن جده الشاعر فرح بن أسعد الفيفي -رحمه الله- عن رواة سابقين، وتحدث هذه الأسطورة: في الحالة التي يُقتل فيها الشخص ولا يُعرف قاتله، أو كان قاتله مجهولاً فيقوم شخص شجاع بالسهر على هذا النعش ثم تأتي مجموعة من قبيلة الميت ويحوطون الموقع من أجل أن يسكتوا أي صوت.. لتستمر السُهرة في هدوء تام. وأما الذي يسهر على النعش فتمر عليه أصوات.. في بعض السُهر إذا خاف الذي يسهر أو ساوره القلق تنتهي السُهرة، ويُبطل مفعولها بهذا الخوف والقلق؛ كونها بحاجة إلى شجاعة تامّة وشجاع لا يهتز، وببطلان أي سُهرة فإن القاتل يظل مجهولاً.. وأما إذا نجحت السُهرة فإن الميت يقوم ثم يستوي جالساً ليبدأ بالجزاء: وهو أن يخبر عن الذي قتله ثم يبدأ الإخبار عن بنبوءة: بأن قاتلي سيقتله فلان في المكان الفلاني ويسمّي المكان، وقاتله الفلاني باسمه.. وبالفعل تتحقق نبوءته. وأما في واقع محافظة فيفاء فقد انجلت هذه الأسطورة ولم يبق منها إلا روايتها وتداولها. وأما آخر مرة طبقت فيها هذه الأسطورة وحدثت على الواقع كآخر سُهرة حددها بعض الرواة بقبل جيل من الآن.. ونحن نقوم بنقلها راوٍ عن راوٍ من أحد الحاضرين للسُهرة الأخيرة. ونجحت ولكن المقتول لم يذكر لجزائه إلا رموزاً غير مفهومة غير أنه يحكي بأن هذه الرموز تحققت بعد حقبة زمنية مما أعاد الراوي إلى ربطه بين ما قاله القتيل في آخر سُهرة وما وقع فوجده متشابهان وبهذا تحققت السُهرة إلا أنها انجلت ولم يعد لها مكان إلا في المجالس. ما مضى من أساطير ما هي إلا جزء بسيط مما خبأتها فيفاء من كنوز للإنسان الباحث في نقوشها، وذاكرتها، وحضارتها، وأساطيرها، وتاريخها. وأسطورتنا الفيفية الثالثة هي حكاية ليس لها مثيل: أسطورة (خفّ بالرّبع) وهو عبارة عن حيوان أسطوري شبيه بالجمل له ثلاثة أرجل وسنامه عبارة عن حفرة إلى باطنه.. وأنه يهشم الضحية على أسنانه ثم يرميها بهذه الحفرة بحال أنه لا يريد أن يأكلها بوقتها. ويتبادلون رواية حول هذه الأسطورة بأن امرأة ذهبت لزيارة أخوالها نازلة من فيفاء باتجاه السهول وفي أثناء عودتها في مطلع الليل وجدت بيتاً وبه غرف خارجه مخصصة لتربية الحيوانات وأرادت أن تبيت حتى الصباح دون أن تزعج أهل هذا البيت أو تسبب لهم حرجاً ولأن مواصلتها الطريق إلى البيت تعد خطراً عليها مما اضطرها إلى البقاء حتى الصباح. وفي داخل هذه الغرف توجد سهوة: وهي أشبه ما تكون بالقاعدة ولكنها بدون أرجل ومعلقة بالسقف فصعدت فوقها.. أثناء ذلك سمعت أصواتاً، وبأثناء سماعها للأصوات دخل رجل غريب فوضع أسلحته إلى جواره وتمدد للراحة ولكن بهذه الأثناء تصاعدت الأصوات إلا وبذلك الحيوان «خف بالربع» وقد أدخل رقبته من الباب ولم يستطع إدخال جسده لكبر حجمه فأمسك بهذا الرجل بفمه وبدأ بقضمه حتى هشَّم جسده ورماه في تلك الحفرة بظهره. والمرأة تشاهد هذا المنظر من مكانها العلوي. وعند الصباح عادت إلى البيت ولكنها بغير الحالة التي كانت عليها، حيث إنها من خلال مشاهدتها للموقف (استُعجِمَت) ولم تستطع الكلام بعد ذلك. وحين وصلت سألها أهلها عمَّا حدث ووقع لها ولكنها كانت عاجزة عن الكلام. فاستدعوا حكيماً وهو أحد المعالجين، فقال لهم بأنها تعرّضت لصدمة، وقرَّر علاجها بصدمة أخرى، وكانت هذه الصدمة عبارة عن مشهد يقدّمه اثنان من إخوتها باصطناعهم موقفاً أمامها في محاولة قتل أحدهما الآخر ... وما كان منها إلا أن ضربت على رأسها وهي تقول: «أووو إخوتي» واستعادت بهذه الصدمة قدرتها على الكلام، فأخبرتهم بما رأته من حكاية هذا الحيوان الأسطوري. (كما أنها تدور حوله الكثير من القصص بفيفاء مما جعل منه أسطورة فيفية). «أسطورة صخرة فيفاء الطاهرة» إنها حكاية عن تلك الصخرة الفيفية التي تحيض دماً. وهي أسطورة متوارثة في فيفاء وأرويها لكم اليوم بسند متصل: عني، عن عبدالله بن حسن بن فرح الفيفي، عن جدته لأمه السيدة: مريم بنت يحيى بن أسعد الفيفي -رحمها الله-، عن أمها عافية بنت سلمان الفيفي، عن رواة سابقين.. وتقول الأسطورة: «إنه وفي «فيفاء الوسطى» بعد أن توسعت قبائل فيفاء عمودياً: من سفوح فيفاء إلى أواسطها، وقبل أن تسكن قمم فيفاء الحالي. كانت لديهم عادة متوارثة بأن من بدر منه عيب مشين كخيانة أو قتل. أنه وبعد الاقتصاص منه قبلياً يُسَيَّر من بيته ومزارعه وبلده وتُؤخذ منه لصالح الشيخ والمتنفذين من حوله، ومن ذلك (جريمة الزنى)، لأن من فعلت ذلك قد عيّبت أهلها وقبيلتها فيقومون بتسيير (نفي) كامل الأسرة من بيوتهم ومزارعهم وتُؤخذ منهم. ويحكى أن خبيثاً راود فتاة عند نبع الماء فلم يستطع النيل منها، وسعى إليها مرة أخرى أثناء رعيها لماشية أهلها فلم يستطع أيضاً؛ لعفتها وحرصها على نفسها. فأوصل خبراً لوالدها بأن ابنته حامل، وأنها شوهدت مع رجل. فغضب والدها غضباً شديداً. وفكر قائلاً لنفسه: ما دام الخبر قد بلغه سراً ولم ينتشر بعد فهو بين نارين: حمية الجاهلية، والخوف من العار، وأنه لو علم كبار القبيلة وثبت عيب ابنته لغدت جريمتها كوصمة عار طوال حياته وفوق ذلك يُنفى ويُؤخذ كل ما يملك، فأيقن بأن الحل هو قتلها، والتخلّص منها. ولما عادت طلبت منها أمها أن تهرب. - فقالت لها ابنتها: ولماذا أهرب؟ - الأم: ما فعلتِه هو السبب؟ - البنت: لم أفعل شيئاً يا أمي! - الأم: وكيف سيصدقك أبوك وقد شهد الرجل الذي أخبره بأمرك، وأطبق الشيطان على عقله. خرجت الفتاة من ذلك المنزل الأسطواني وقد بدأ الشفق يتلاشى وإذا بها تبصر أباها من بعيد عائداً للمنزل ولم تستطع الهرب، ثم أين تهرب اليوم وهي التي كانت تهرب من الكون إلى حضنه؟ لأن حضنه ما عاد يمثِّل لها الأمان والحنان. واختبأت منه خلف صخرة بجوار منزلهم متمسكة بها علّها تكون ألين من قلب أبيها، متحدثة إلى تلك الصخرة الجامدة قائلة لها: أنا في وزايك - أي أنا في جوارك- اشهدي بأنني بريئة وأنني الآن حائض فكيف لحامل أن تحيض. دخل أبوها البيت يفتش عنها ولم يجدها فأخذ سراجه، متشحاً شفرته. وخرج يبحث عنها إلى أن وجدها متشبثة بالصخرة فأرداها قتيلة جهالة وظلماً، وما كان من تلك الصخرة إلا أن تثبت للجميع بأنها ألين من قلب أبيها، حيث أصبحت تلك الصخرة تحيض منذ موتها ويخرج منها كل شهر قطرات من دم إشارة وشهادة منها ببراءة تلك الفتاة.