منطقة الخليج العربي في الميزان السياسي والاقتصادي والاستراتيجي والنفطي، تعد محط اهتمام دول العالم، فبالأمس كان التنافس عليها من أجل الإستراتيجية واليوم أصبح محيطها من النفط أكثر من (800) مليار برميل احتياطي مؤكد يضيف لها أهمية أكبر، فمستقبل إمدادات الطاقة مرهون بأمنها واستقرارها، وأصبح مركز الصراع الدولي فيه، نظراً للتطورات السياسية في هذه المنطقة، وقد زادت حدة الصراع في المنطقة منذ بدء ثورة الخميني 1979، والحرب الإيرانية - العراقية. في هذه المنطقة شديدة الأهمية تقع دول المجلس الست ومعها العراقوإيران، والمملكة وقطر أعضاء في المجلس الذي ولد عام 1981 تزامناً مع ثورة إيران في تلك الفترة من التاريخ ثم برزت أطماع العراق في دولة مستقلة الكويت وقد نجح المجلس الموحد في دحر عدوان العراق ووقف زحف ثورة الخميني. وقبل وبعد تأسيس المجلس العلاقات الخليجية - الخليجية تليدة راسخة والوشائج قوية لا تنقطع والعلاقات الأخوية المتينة عبر العصور والأزمان بين شعوب هذه المنطقة وحكامها الذين يربطهم دين واحد ولغة وتاريخ وحدود وتشابه اقتصادي وسياسي واجتماعي وثقافي، ومصير واحد، قوية الأركان ثابتة البنيان لا تهزها ريح ولا تؤثر فيها غوائل الزمن، بينهم تواد وتراحم قبل تأسيس مجلسهم عام 1981 بقرون. ولذلك فإنه كلما هبت عاصفة على العلاقات بين دولة وأخرى من دول المجلس مهما بلغت قوة تلك العاصفة فإنها تعود إلى الهدوء لتختفي في نهاية أمرها، والعلاقات السعودية- القطرية يعود تاريخها إلى أمد بعيد فأسرتا آل سعود وآل ثاني تربطهما علاقات ضاربة في القدم مسجلة في بطون الكتب. لكن هذا لا يعني أن العلاقات بين السعودية وقطر لم تشبها أبداً شائبة وأن مركبها ظل دائماً يسير على وجه من الماء هادئ لا موج فيه، فهذا ليس من طبيعة الأشياء، فالعلاقات بين الدول كالعلاقات بين الأفراد وحتى وإن كانوا أشقاء تعتريها النسائم مثلما تعتريها الأعاصير، ويصيبها البرد مثلما يصيبها الدفء، ولذلك فإن العلاقات بين المملكة وقطر تعرضت أحياناً لبعض الأعاصير. ولأن قادة البلدين يعرفون أهمية العلاقة بينهما وحتميتها وضرورتها هبوا جادين لترميم علاقتهما وفق منهج صريح واضح يراجع بعمق مفردات علاقة الدولتين بتبني إعادة تقييمها وفق أطر واستراتيجيات عملية تنهي حقبة الأعاصير التي هبت على تلك العلاقات، وتفكيك مرحلة ما وصلت إليه من تعقيدات أو قل عقبات، ووضع حاضر ومستقبل زاهر لتلك العلاقات ينعكس إيجاباً على مصالح الدولتين وشعبيهما ودول المجلس. والمتتبع لتطور العلاقات والاستراتيجيات الدولية، يجد أن قادة الدول وكبار موجهي ومخططي السياسة فيها يحرصون على عقد اللقاءات والاجتماعات ومؤتمرات القمة على درب تطوير العلاقات الثنائية بين الدول وتدعيم علاقاتهم السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية ...الخ، بجانب دعم السلم والعدل الدوليين والأمن والاستقرار في العالم. وقمة العلا (قمة السلطان قابوس والشيخ صباح رحمهما الله)، إنما هي قمة تاريخية عقدت على أرض بلاد الحرمين الشريفين، على قرب من طيبة الطيبة حيث قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، المدينة المباركة التي استقبل أهلها الأنصار رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ليشع نور الدين الخالد من على أرضها بعد أن نزل الوحي على خاتم الأنبياء في مكةالمكرمة. هذه القمة لا تقل أهمية عن قمة ميلاد المجلس في العاصمة الإماراتية أبو ظبي عام 1981، إنها قمة (رأب الصدع ) فقد جاءت بعد أن عاش المجلس وشعوبه أزمة دامت ثلاث سنوات ونصف السنة أبعدت دولة قطر الشقيقة عن اللحمة والوحدة الخليجية، ولذلك قال ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وهو يفتتح المؤتمر التاريخي: (إننا ننظر ببالغ الشكر والتقدير لجهود رأب الصدع التي سبق أن قادها صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الصباح رحمه الله، واستمر بمتابعتها صاحب السمو الشيخ نواف الأحمد، كما نشيد في هذا الشأن بمساعي الولاياتالمتحدةالأمريكية وجميع الأطراف التي أسهمت بهذا الشأن) إنه شكر لمن استحق الشكر. وقد كانت النيات الحسنة والرغبة الصادقة في رأب الصدع قد جعلت افتتاح المؤتمر يبدو وكأنه نور يسطع على مدينة العلا التاريخية، فقد سبقه فتح كل الحدود مع دولة قطر، هذا لأن الحدود السياسية لها أهمية قصوى في تحديد كيان الدولة كوحدة سياسية قائمة بذاتها إضافة إلى أهميتها في تحديد علاقاتها السياسية والاقتصادية والحضارية مع الدول المتجاورة. وبهذا التدشين للحدود بين الدولتين تصبح حدود قطر البرية مع المملكة مفتوحة لتدفق الصادرات والواردات بين البلدين الشقيقين ولتعج بالمسافرين بين البلدين ويدعم ذلك فتح الأجواء لتصبح الحدود كلها ومنها الجوية قد أخذت طريقها إلى الانطلاق والخاسر إيران التي كانت تحصد أموالاً طائلة من دولة قطر تبلغ في متوسطها (100) مليون دولار والكاسب الوحيد الشعب السعودي والقطري. المملكة وقطر يجمعهما الجوار وقبل ذلك يجمعهما الإسلام ثم العروبة ظلت الظروف دائماً تهيأ الأحداث والمواقف التي تشحذ العلاقات بينهما وتؤكد أزلية تلك العلاقة وحتميتها، وكان احتلال العراق للكويت واحداً من تلك الأحداث التي دعمت عود العلاقات القوي وسبرت غورها العميق، وأكدت أن الخلافات قشور وأن طيب العلاقات لب أصيل فقد وقفت الدولتان في خندق واحد لدحر القوات العراقية التي احتلت الكويت الشقيق واختلط الدم السعودي بالدم القطري دفاعاً عن الكويت حتى تحررت وشمت رائحة الحرية وانجلت للعيون إخوة الإسلام والعروبة. واليوم وبعد تلك السنوات العجاف من العلاقات بين المملكة وقطر، جاءت الحكمة وبعد النظر والرأي السديد على لسان ولي العهد: (نحن اليوم أحوج ما نكون لتوحيد جهودنا للنهوض بمنطقتنا ومواجهة التحديات التي تحيط بنا وخاصة التهديدات التي يمثلها البرنامج النووي للنظام الإيراني وبرنامجه للصواريخ البالستية ومشاريعه التخريبية). ما قاله ولي العهد حقيقة دامغة، فإيران طامحة لامتلاك القوة النووية تغازل المجتمع الدولي وتهدد بإغلاق مضيق هرمز رئة العالم النفطية إذا ما دخلت حرباً مع الولاياتالمتحدة والناتو عموماً، ولم تفعل أمريكا والاتحاد الأوروبي سوى إصدار قرارات تتعلق بتطبيق بعض العقوبات الاقتصادية على طهران التي ستمضي في برنامجها النووي قدماً. ورغم العقوبات المشددة التي فرضها السيد ترامب فإن طهران مستمرة في تخصيب اليورانيوم ودعم برنامجها الصاروخي، ولن يوقفها سوى تعاون دول العالم في كبح جماحها ومشاركة دول المجلس في أي محادثات قادمة بهذا الشأن بشكل مباشر أو غير مباشر. ولا شك أن ذلك العناق بين الأميرين محمد وتميم أثناء الاستقبال التاريخي يؤكد ثوابت الإسلام وحسن خلق العرب ونخوتهم وشجاعتهم وأنهم أهل الرجولة والإقدام، ويعني عقد العزم على الرغبة المشتركة للدولتين في تطوير علاقاتهما ودعمها في كل ميادينها تحت راية الحوار الصادق الصريح لبناء علاقات إستراتيجية راسخة القاعدة بين البلدين تلبي الرغبة المشتركة في دعم التعاون وتطويره وتعزيزه. وقد جاءت القمة التاريخية لتمثل فتحاً مبيناً في تاريخ العلاقات بين البلدين، وهكذا فإن بناء علاقات راسخة متطورة ومتكافئة بين الدولتين في ظل التحديات الإقليمية والدولية تتطلب قدراً كبيراً من التنسيق والتعاون والتشاور بين السعودية وقطر ودول المجلس لتصبح ضرورة وليس ترفاً. وعلى صعيد بناء جسور قوية لعلاقات سعودية - قطرية لا تهزها العواصف ولا تؤثر فيها التقلبات تخدم مصالحهما الواسعة وعلاقات إستراتيجية نسجها تاريخ تطور علاقاتهما فإن الدولتين ستتركز جهودهما على قضايا التعاون بين البلدين وسبل دعمها وتعزيزها إضافة إلى القضايا العربية والإسلامية والدولية في ظل أوضاع وظروف دقيقة وصعبة تمر بها المنطقة الخليجية خاصة والعربية عامة مما يستدعي تكاتف القيادتين للمساهمة في دفع عجلة دعم قضايا الأمة. ولأن الهدف من المؤتمر كان طيباً، والنيات أثناءه كانت صادقة فقد استطاع نقل العلاقات من التوتر إلى الانفراج وأزالت كل الاحتقانات التي أحدثتها فترة الشد والجذب في العلاقات، وفتحت قرارات القمة مجالات أرحب لعلاقات أعمق وأوثق. إن المتابعين لعلاقات دول مجلس التعاون الخليجي والعارفين بمسيرة تلك العلاقات يرون في انفراج العلاقات السعودية - القطرية خطوة جريئة على طريق سد كل الثغرات في علاقات دول المجلس بعضها بعضاً ويؤكد حرص دول الخليج على الوشائج القوية التي تربط تلك الدول ببعضها. ويمكن القوة أن الإرادة السياسية تستطيع كسر جدار الخلافات وسد الثقوب والشروخ به متى ما أرادت، وتحويلها إلى نجاحات تخدم البلاد والعباد، وتضيف المزيد من رغد الخير والنماء والرخاء والازدهار. وهذه الأهداف الخيرة كانت هي عنوان القمة التي جمعت أهل الخليج ومصر ووحدت دول المجلس من جديد، لتعود قطر إلى حضن المجلس متسلحين جميعاً بأواصر العقيدة السمحة والجوار والقربى والمصير المشترك. والله ولي التوفيق،،، ** ** - رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة