حظيت المناظرات بمكانة خاصة في الثقافة العربية الإسلامية، لارتباطها بخطاب الدين الإسلامي الذي استخدم كل وسائل الإقناع اللازمة للدعوة والرد، ومع اشتعال الصراعات السياسية داخل المجتمع الإسلامي لاحقا، ونشوء علم الكلام وتطوره، زادت الحاجة للمناظرات، مما يعني أن بدايتها كانت دينية لتشمل بعدها عموم إنتاج الثقافة العربية؛ بما في ذلك الأدب ومن ثم تعددت المدارس الأدبية والنحوية نتيجة الاختلاف والتعارض، وعقدت المجالس للتحاور والتناظر في المساجد وقصور الخلفاء. من هذه المناظرات ما صارت مضرب الأمثال؛ المناظرة التي دارت بين بديع الزمان الهمذاني وأبي بكر الخوارزمي ومناظرة المتنبي والحاتمي والمناظرة النحوية المعروفة بالمسألة الزنبورية، بين سيبويه والكسائي، وغيرها من المناظرات التي احتفت بها مصنفات التراث من تراجم وسير ومختارات أدبية. ولم يقتصر الامتياز الذي حظيت به المناظرة على التراث بل تعداه إلى العصر الحديث الذي شهد سجالات ومعارك أدبية شديدة، فاشتهر الأدباء بخوضهم في مناظرة مخالفيهم، ذلك ما توضحه كتابات طه حسين وعباس محمود العقاد ومصطفى صادق الرافعي وسلامة موسى والمازني وغيرهم. وسارعت الصحف وقتها لنقل أخبار هذه المناظرات وبث نصوصها على صفحاتها الثقافية، فنشرت مجلة الآداب ( ماي1955) المناظرة التي دارت بين طه حسين ورئيف خوري والمعنونة ب«لمن يكتب الأديب للخاصة أم للكافة؟» ونشرت مجلة الرسالة (العدد 877 الصادر بتاريخ 24 أفريل 1955) وقائع المناظرة التي كان موضوعها حول «الأدب العربي والأدب الغربي» وغيرها من المناظرات التي احتفت بها الصحف العربية في ملاحقها وصفحاتها الثقافية، من أمثال صحيفة البلاغ، والرسالة، والبيان وكوكب الشرق، والسياسة الأسبوعية...، وقد حملت هذه المناظرات خيراً للأدب، فقد حثت على التجويد وفتحت باب النقد ومعارضة الآراء. ومن يتأمل الساحة الأدبية اليوم يلاحظ أن المناظرة الأدبية قد اختفت تماماً أو كادت، على أن هذا لا يعني بالضرورة انخفاضاً في المستوى الأدبي ،بقدر ما يدل على أن الأنواع الأدبية لا تلزم وضعاً ثابتاً، تزدهر وتتراجع حسب الظروف الثقافية المحيطة بها، فلكل عصر ما يتماشى معه من الخطاب الأدبي، بالإضافة إلى عزوف الكتاب عن الجدل، وتقبل آراء مخالفيهم بصدر رحب، كما أن التقنيات الحديثة قد أتاحت للقراء والكتاب على حد سواء منابر عديدة للتفاعل اللحظي مع بعضهم، ومن ثم تراجع دور الصحافة الأدبية في الوساطة بين القراء والكتاب. ** **