الاختلاف والتدافع والتداول سنة ماضية، لا تتأتى عمارة الكون إلا بها، والبراعة والتوفيق يبدوان في تحويل ذلك كله إلى اختلاف إيجابي، يتسع للتعاذر، والدفع بالتي هي أحسن، ويحول دون التنافي والأثرة والعداوة والبغضاء، متى كان الاختلاف في إطار التنوع لا التضاد، وبحيث لا يؤدي التعاذر إلى الإيمان بمبدأ تعدد طرق الخلاص، كما يراه المفكر الفرنسي المتأسلم (روجيه جارودي)، ذلك ان قيم الدين ومتطلباته من تغيير المنكر بمستويات التغيير الثلاثة، والأطر على الحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة، وإبلاغ الآية، وإسماع كلام الله ليس وجوبها مجال اجتهاد أو اختلاف، وإنما الاختلاف معها يكون حول مؤهلات الناهض، وأسلوب النهوض، والقدر الكافي من التبليغ، ومستويات التكليف. وحديثنا عن التنازع وجذوره ومحفزاته حديث شمولي، يطال الفروع من الدين ولأصول من الفن والفكر والسياسة والاجتماع، وماهو داخل ضمن المعرفة الإنسانية. ومهما حاول الإنسان توقي محفزات الاختلاف، فهو واقع فيها، لارتباطها بالعقول المختلفة والمكتسبات المتفاوتة والتصورات المتعددة والأحوال المتباينة، وحين لا يكون بدّ من الاختلاف فإن تطلعنا ألا يرقى إلى الثوابت وأصول العقائد وألا يصل الاختلاف إلى الخلاف، ويبلغا معاً مشارف الفتنة، والإسلام قد عالج أساليب التعامل مع المخالفين، ورسم طريق النجاة حين يبلغ الصدام ذروته، ويتحول إلى فتنة يكثر فيها الهرج. وحين يصل الاختلاف حد الفرقة، ويوشك على التقاء المسلمين بسيفيهما، يكون الاعتزال هو الحل الأمثل، وقد عالج الفقهاء اتقاء الفتن، وجاءت النصوص قطعية الدلالة والثبوت، ترسم للمسلم طريق النجاة، حتى ولو لم يبق إلا أن يعض المتعرض للفتنة على أصل شجرة بانتظار أمر الله. وتنازع الأنام الذي يساورني همه في هذا المبحث لا يمتد إلى تنازع العقائد والحضارات، مما يعد (خلافاً)، وإنما هو عن (الاختلاف) داخل المنظومة الفكرية الواحدة. والفرق بين (الخلاف) و(الاختلاف) أن الأول اختلاف في الطريق والمقصود، والثاني اختلاف في الطريق دون المقصود. وحين يكون (الاختلاف) ناتج الاجتهاد، ويكون الاجتهاد مشروعاً في ثلاثة من مستويات النص الأربعة، (الدلالة والثبوت) بين (القطعية والاحتمالية) يكون الاختلاف حتميا، ويكون العمل على توفير (الاجماع) من إضاعة الجهد والوقت والمال. والتاريخ الحضاري للأمة الإسلامية مر بمراحل مضيئة، استطاع علماؤه ومفكروه تلافي المواجهات التدميرية، بحيث ارتدوا إلى دواخل القضايا، واشتغلوا بها، الأمر الذي مكنهم من إنجاز المعارف، والأنظمة، والقوانين، والعقود، وصياغة الفكر السياسي، والأساليب الاقتصادية، وتحرير ضوابط الفن والفكر والسلوك. ولقد استوعبوا فيوض الحضارات القديمة، وأسَّسوا بمجموع إنجازهم للحضارة الإنسانية، وسطعت شمسهم على الغرب. ونشوء العلوم والمعارف والمذاهب والآليات والآراء والمصطلحات ناتج حوار فكري إيجابي، يبحث عن الحق، ولا يفكر بالانتصار. فهذه مذاهب الفقهاء، واتجاهات المفسرين، وضوابط المحدثين، ونظريات المعرفة، وأصول المذاهب، وقواعد العلوم، شاهد عدل على حصافة الرأي ودقة الملاحظة وعمق المعرفة والدأب والمثابرة والرحلة في طلب العلم مع سلامة المقاصد وحسن النوايا والمنعطف السلبي الذي أشعل النعرات، وأذكى التعصب، وقدَّس الشخصيات، وأهمل القضايا، ودفع إلى التلاسن البذئ، ناتج ضعف معرفي واجترار عقيم لمنجز الأفذاذ من العلماء، وانقباض متخوّف، وعجز عن الاكتشاف والاختراق. وقد أفرزت بعض المراحل المنطفئة في التاريخ الإسلامي خطابا تنازعياً، أذهب الريح، واستفحل معه الفشل. ووجد فيه المتماكر الاستشراقي مجالاً للنيل من الحضارة الإسلامية، وإغراء للمستضعفين، لإعادة المناكفات جذعة، والفرح الحزبي ينصب دائماً على مفردات الاختلاف، ولا يتجه صوب بوادر الإضافات. ومع أن تعدد المناهج والآليات والرؤى والتصورات سبيل إثراء، وطريق تأصيل وتحرير، إلا أن التعصب المسنود بالعرقية، والإقليمية، والأثرة، والعقم، وخلل الفهم، وانعدام الورع وضعف الإدراك، والوقوع في مأزق المفاضلة، وصرامة الحدّيّة، وحب الهيمنة والتصدير والعجب بالرأي، حوَّل الإيجابيات إلى سلبيات، وعطل القدرات التي أفاء الله بها على عباده. والتعقب الحصيف لأشلاء المثمنات، يتجاوز الأثر إلى الجذور، والناتج إلى المحفزات، فما فات من جدل عقيم مات، ونحن أبناء لحظتنا الأبدية، والمؤمل من عقلاء الأمة السعي الحثيث لتجفيف مستنقعات الخلاف، وردم بؤر التوتر فنحن في زمن لايحتمل مزيداً من المناكفات، وفي وضع رديء لايطلب مزيداً من الاخفاقات. وعلى أهل الحل والعقد تجاوز البحث عن المسيء إلى الإساءة لتلافيها، فالأخطاء ناتج تراكم من المشاكل الممتدة مع الزمن، وليس لمتصور سليم أن يُحمِّل اللحظة الزمنية الراهنة ولا إنسانها مجمل الإخفاقات والإحباطات التي نتجرع نتائجها. فنحن ضحايا ركام من المقترفات المذهبية والسياسية والعرفية وسائر المسلمات التي شارفت على التقديس والتصنيم لما هو قائم من الأشياء والأناسي. وحين لايكون بد من الاعتراف بالتقصير والعجز، فإن علينا ألا نتخفف من المعاناة بالمشاجب التي نلقي عليها بالمعاطف الملوثة، متى كان بإمكاننا غسلُها وإعادتُها إلى طهرها ونقائها وجدتها، ولن يتأتى لنا ذلك إلا بمواجهة الهزيمة بروح واثقة، وعزيمة صادقة، ومعرفة مناسبة، لكي ننهض من عثرتنا قبل إلفها واستساغتها، على شاكلة المهين الذي يسهل الهوان عليه، ومتى قبلنا الذل تحولنا إلى جرح ميت لا يحس بالألم. وفقد الإحساس موت معنوي، لا قيمة للحياة معه، والنهوض التطوعي للمتداخل مع المخالف يتطلب التوفر على (فقه الاختلاف) و(آداب الحوار) و(مسوغات الاجتهاد) ومعرفة طرائق التعامل الحضاري مع المخالفين، مع تصور الأشياء تصوراً سليماً، والتعرف على أصولها وقواعدها وضوابطها، والتمكن من آليات الحوار ومقوماته المعرفية، ورباطة الجأش. وبين أيدي المتابعين عدد كبير من الكتب التعليمية والتوعوية حول (أدب الحوار) و(فقه الاختلاف) و(شرط الأطراف) و(ضوابط الأهلية) و(أسباب الاختلاف) و(آداب الجدل والمناظرة) ومن جهل الأصول والأسباب والآداب والشروط فليس له أن يخوض معترك الجدل. وإذ نفترض أن مرد التنازع وجذوره ومحفزاته إلى نواقص عامة وخاصة: معرفية وأهلية، فإن علينا أن نلمح إليها، وأن نعمل على تلافيها، وكل من خاض مع خصومه معترك الجدل وسعى جهده للوفاق عرف ماينقص المتجادلين. ولقد وجدت من المناسب أن اتخذ مما لقيت في سفري المعرفي من أتعاب شاهداً على ما تمس الحاجة إليه، ولعل أولى الفواقر وإكسيرها فقد (المصداقية)، واختلاف (المفاهيم) وتفاوت (الأفهام) و(الضعف المعرفي) وما تستتبع هذه الجذور من جهل للواقع، ولطبيعة الأشياء، ومن غياب للمشروع، وانعدم للورع، وسوء في الأدب، وواجبنا ان نقف عند متطلبات الجدل الإيجابي، وأولها (المصداقية) وضوابط (المفاهيم) وتفاوت (الأفهام) وعلينا وقد شهدنا تدنيات في أخلاقيات الحوار أن نسعى للأطر على قول الحق، وتقريب وجهات النظر، وتربية (الأفهام) وصقلها وتدريبها وتوسيع مداركها. والمتابع للعراك في كافة المشاهد الدينية والعلمية والفكرية والأدبية يقف على خلل واضح في (المصداقية) عند كافة المختلفين، إلا من رحم ربك، وقليل ماهم. فبعض الخصوم حين تعييهم الحجة يفترون على خصومهم الكذب، وهم يعلمون، وما على المردد إلا أن يستعرض مدونات المعارك، وبخاصة (المعارك الأدبية والفكرية) التي عشناها قولاً وعملاً ومتابعة، ومتى تقراها المتابع بحيادية وعدل وإنصاف تبين له افتقار المشاهد إلى (المصداقية) وقد يتعمد البعض تحريف الكلم عن مواضعه، وتقويل الطرف الآخر ما لم يقل، أو المصير إلى التأويل الكاذب، وبخاصة حين يسعف المناوئين الابتسارُ النصي أوالانفتاحُ الدلالي. ومتى استمرأ المتجادلون الكذب، طُمست الحقائق، وتحول المتحاورون إلى هجَّائين، لايرقبون في خصومهم إلاّ ولا ذمة. ولقد لقيت في مراجعاتي وحواراتي نصباً، وفوجئت من بعض من أتوسم فيهم المصداقية والبحث عن الحق بقول كذب، أرجو ألا يكون ديدنهم، وإن كشف بعضه غيري، ولزم الكذبة الصمت، وهذا الإلباس المتعمد، يمنع المقتدر من الدخول مع مثل أولئك، مما يوفر للأدعياء أجواء مناسبة تمكنهم من تفريخ آرائهم وتصوراتهم الكاذبة الخاطئة. وحين يستمرئ النخبويون الكذب، ولايجدون في ذلك غضاضة يُنشّأ ناشئ العلماء والمفكرين على ما كان عودهم سلفهم، وحين تشيع خليقة الكذب، وتكون ممن يتوقع منهم الصدق، تصاب المشاهد العلمية والفكرية والأدبية في الصميم، وتكون الأمة كمن غص بالماء الزلال، فالذين يتوقع منهم الإسهام في تربية الأخلاق بالتعليم وبالقدوة الحسنة، ينقلبون على أعقابهم، ويكونون قدوة سيئة. وكيف يتعمد النخبويون الكذب؟ وهم يعلمون أن المسلم يكون بخيلاً، ويكون جباناً، ولكنه لايكون كذّاباً. إننا أحوج ما نكون إلى (المصداقية) في مواجهاتنا، ومتى صدقنا مع أنفسنا، ومع قبيلنا في سرنا وفي علننا، في منشطنا وفي مكرهنا، أشعنا الفضيلة، وضيقنا الخناق على دواعي التفرق، وإذا كان الحقُّ ضالةَ المؤمن فإن الغاية لاتبرر الوسيلة، والإسلام حث على العدل والصدق، والمفترون المحرفون ظالمون ومزورون، وفقد المصداقية ليست وقفاً على زمان أو مكان، وليست سمة خاصة بالأدباء وحدهم، وليست واقعة من كل الخصوم، وسأضرب مثلاً على فقد (المصداقية) بموقفي من (الحداثة) أو من (الشعر العامي) ولو شئت ضربها من خلال مواقف أخرى عند الكافة من الأدباء والمفكرين لتبدت لنا بأبشع صورها، وحين أضرب المثل بما لقيت فإنما أريد كتابة ماحدث لا من أجل المباهاة أو الادعاء، وإنما القصد الإبانة عن الموقف والدفاع عن النفس. فبعض الذين يختلفون معي حول هذه القضايا، يعرفون من خلال ما أقول لهم في كل مواجهة: انني لا أختلف حول التجديد، ولا أعترض على قراءة الآخر، ولا أرفض (المثاقفة) ولا الاستفادة من أي فكر أو فن لايصادم الثوابت، وانني أقبل المنهج والآلية متى أمكن تفريغها وعوربتها، وانني أفرق بين التحديد في الشرط الفني والبناء اللغوي والشكل الابداعي وبين مقتضيات الحداثة الفكرية، وان موقفي من الحداثة لايتجاوز انحرافها الفكري، وسقوطها الأخلاقي، وانقطاعها المعرفي، وضربها لثوابت الحضارة الإسلامية التي لاتتحقق إسلامية المسلم إلا بها، وبهذا فأنا مجدد أكثر من المجددين، وعصري أكثر من المعاصرين. ومع هذا يقول قائلهم: إنني ضد التجديد، وانني أريد الارتداد بالأمة إلى الخيمة والجمل، وبعض من لاذوا بالفرار من وضر الحداثة التي تلبسوا بها فترة من الزمن، حاولوا الالتفاف الغبي، وعادوا يقولون: - بأن حداثتهم تتسع للتجديد وحسب، وكأنهم يريدون وضع الطرف الآخر ضمن دائرة التقليد. والوثائق والمواقف والهموم والخلطة والمولاة تكشف عن المغالطة، والإحالة إلى التجديد والتقليد تحرف ضعيف. ومع علمهم بما هم عليه يظلون يكررون هذه المفاهيم الزائفة، دون أن يثنيهم إرشاد، أو يخوفهم