لقد تأملت ما تم رصده من هجرات جملة من حملة المؤهلات العليا، من بلد عربي واحد، خلال الخمسين عاماً الماضية فوجدته يربو على 000 ،450 مهاجر قد استقروا في بلاد الغرب. وهؤلاء الذين هاجروا هم في الحقيقة رصيد بشري، إن قُوِّم فهو أغلى من الأرصدة الذهبية، تودع في البنوك غطاء للعملة الورقية، وهجرتهم بمثابة زلزال «لفكرة الزمن العلمي الوطني والقومي»، أما من حيث حركة التقدم فهم بمثابة «القاطرة» التي تشد سائر العربات في الأمة إلى مستقبل أفضل. وبحساب مقاييس التفوق العالمية، فقد نبغ من هؤلاء ممن أمكن إحصاؤهم: 94 في الهندسة. 26 في الفيزياء النووية. 25 في علوم الفلك والفضاء. 28 في البيولوجيا. 72 في استخدامات الليزر. 93 في الالكترونات الدقيقة. نائب خادم الحرمين وأمثال هذه الأعداد في الطب، والهندسة الوراثية، وعلوم أخرى.... كل هذا من بلد عربي واحد حسب ما ورد في تقرير أكاديمي، فأي ربحية كدستها الدولة المضيفة، وأي أوقات وأعمار أضيفت لعُمرها العلمي؟ إن حصيلة مثل هذه الأرقام من الباحثين في الفروع الدقيقة، ومساعديهم من هذه الأرضية الواسعة من المهاجرين، ليست بالأمر الهين أو اليسير فيما تبتكر، فتدور به تروس عجلات الاقتصاد الهائلة، فتسيل به أودية الثروة في السلام، أو تقصف به آلة الدمار والتهديد والإرعاب في الحروب الضروس!! فإذا ما انشق فجر جديد على هذه الأمة المصدرة لأبنائها، وأتى ليل بهيم فإنها تكتشف ملتاعة، ضياع الأوقات والثروات التي بذلت في تعليم هؤلاء «المهاجرين». وهؤلاء كانوا أطفالاً يرجَّون للغد في مدارسها، فإذا جاء زمن «الحصاد العلمي»، إذا بهذه الأعمار، وتلك الأدمغة، توظف لتخدم أمما غير أممهم!! ولعلهم- دون قصد منهم- يكونون سبباً في تهديد حاضر ومستقبل أمتهم!! تلك أزمنة وأعمار لايمكن تعويضها. - إن هذا النزيف «الزمني» و«العقلي»، إذا مر على الأمة فلم تأبه لحدوثه، ولم تعالج الأسباب التي دعت لنزوح ثروتها العقلية، فإنها تعرض مستقبلها وقوتها لأخطار جسيمة. الأمر إذن يستلفت نظر العقلاء المخلصين ولابد من إدراجه ضمن أولويات قضايا الأمن القومي! إن الولاياتالمتحدةالأمريكية ترصد (5 ،2) مليار دولار سنوياً في صورة «إعانات» مالية لحوالي (000 ،270) طالب أجنبي يقيمون في ربوعها. فهل تنفق هذه المبالغ عبثاً، أم أنها تستفيد من هؤلاء ومن أبحاثهم، التي يجريها المتفوقون منهم؟ لقد نشرت حديثاً إحصائية تبين أن الجامعات الأمريكية قد منحت شهاداتها في المدة من 1981 إلى 1999م لطلبة من الشرق الأوسط على النحو التالي: 111 دكتوراة في الكيمياء. 434 دكتوراة في الهندسة الكيماوية والنووية. 112 دكتوراة في الفيزياء الذرية والنووية. إن المليارين ونصف المليار من الدولارات التي تنفق على هؤلاء الطلاب «الأجانب»، لا تحسب بالناقص من الميزانية الفيدرالية الأمريكية وإنما هي استثمار أريب، وإضافة أعمار هؤلاء الباحثين للزمن العلمي الأمريكي وكسب للثروة والقوة الأمريكية من الصعب تقديره تقديراً مادياً، وهو استنزال في الوقت ذاته من العمر العلمي لبلادهم التي لم تنتفع بهم، ولم توسع لهم المواقع البحثية المجهزة، والميزانيات الميسرة، لكي يبتكروا ماهم مبتكرون. * صيادو الرؤوس التقنية: إن نقص عدد العاملين في مجال التكنولوجيا في شتى أنحاء العالم أمر جدي، ومعادلة للتقدم تبدو غاية في الوضوح، فتكنولوجيا المعلومات هي العصب المحرك الأساسي للنمو في العالم المتطور، وهي محرك يدور بذوي المواهب. وقد ذكر تقرير صادر عن وزارة التجارة الأمريكية عام 1999م، ان أمريكا تحتاج إلى نحو 000 ،150 عامل إضافي في مجال التقنيات، في كل عام حتى عام 2006م. كما تحتاج أوروبا الغربية 7 ،1 مليون تقني بحلول عام 2003م، حسب الدراسة التي أعدها محللون في شركة A.D.C، لحساب مايكروسوفت، منها أربعمائة ألف في ألمانيا وحدها. إن كلا من هذه البلاد «القوية»، تجد نفسها في حاجة إلى تعديل قوانين الهجرة، لتغطية هذه الاحتياجات أو إلى دفع الثمن الباهظ تخلفاً في سباق التقدم، الذي لا رحمة فيه. أما اليابان، وهي من هي، فإنها تعاني من نقص وفراغ في 000 ،210 وظيفة تحتاج من يشغلها في مجال الهندسة، ولذا صرح رئيس الوزراء الياباني بأن «تكنولوجيا المعلومات هي العامل الأساسي في بث الديناميكية في الكيان الاقتصادي الاجتماعي ككل في القرن الحادي والعشرين». من الواضح إذن أن هذه الدول المتقدمة تعاني نقصاً نسبياً في وظائف القمة من الموهوبين، ولعلهم يرجعون ذلك إلى معدلات الولادة المتدنية، وأنظمة المدارس الخاطئة، وقلة اهتمام الجمهور بالهندسة. وهو الأمر الذي دفع بهم إلى مد أيديهم وقرون استشعارهم حول العالم. ومن هنا يطوف من يسمون «وكلاء التوظيف» أنحاء العالم، ويفتشون في مراكز التكنولوجيا، ويستجلبون «مبرمجي الكمبيوتر». وهؤلاء هم الذين تسميهم اليوم الحضارة الغربية «صيادي الرؤوس»!! ولقد طورت شركات (صيد الرؤوس) عملية «الجر نحو الشاطئ» بتنظيم اكتشاف واجتذاب تلك العناصر اللازمة لتغذية آليات تكنولوجيا المعلومات القابعة خلف شواطئ الغرب، وتكشف التسمية عن أوجه المشابهة مع عمليات «صيد الحيتان» أو «الحيوانات الثمينة» أو «اصطياد العبيد» في الماضي القريب فبينما كان يتم في الماضي جلب العبيد للانتفاع بقواهم العضلية، فإن العمليات تتم اليوم لصيد العقول الذكية لتشترك فيما يدور من صراعات لاحراز التقدم، وصناعة القوة، والذي يمكن بشيء من المبالغة أن يسمّى في بعض حلقاته «أعمال العنف العلمي». هذا الأمر هو الذي دعا بعض العاملين في مجال «صيد العقول» حين سئل عن كيفية العثور على عاملين لزبائنه في بريطانيا في مجال التكنولوجيا سواء في الهند أو في أوكرانيا وعلى امتداد ساحة دول العالم الثالث إلى أن يجيب: «لو أخبرتك لوجب علي قتلك»!!!. بتصرف عن النيوزويك 5/7/2000م. (وللحديث بقية..) *وزير المعارف