حصاد العرب من هذه السنوات العجاف كبير وفادح.. كيف لا وهي طالت مقومات البقاء ناهيك عن الصعود والارتقاء. في العراق تحديدا وفي سورية لاحقا وفي محاولات سابقة طالت مصر عندما كان ثمة مشروع يستهدف بناء قاعدة علمية في إطار العمل في البرنامج النووي المصري في الستينيات من القرن الماضي.. طالت عمليات عديدة العلماء، وخاصة اولئك الذين تخصصوا في التقنيات النووية. إلا أن الوضع في العراق لم يقتصر على هؤلاء. فمنذ سقوط نظام صدام حسين في عام 2003 حدثت عمليات اغتيال واسعة طالت علماء وباحثين واكاديميين واطباء وطيارين جعلت منها اكبر عملية تصفية في القرن الحادي والعشرين للكفاءات العلمية. القاعدة العلمية، لا تقوم الا على ثلاثة اركان: مشروع ذي طبيعة علمية وتقنية تقوم عليه مؤسسات، وعلماء وباحثين في اختصاصات عديدة تلبي احتياجات ذلك المشروع، وتجهيزات فنية وتقنية من معامل ومختبرات تمكن من تطوير مخرجات المشروع لوضعها في اطار الاهداف المتوخاة. في العراق، وقبيل الغزو الامريكي، ومن خلال فرق التفتيش الدولي، دمرت كميات هائلة من المواد الأولية والمعدات الصناعية والمختبرية.. آنذاك، صرح "هانز بلكس" كبير المفتشين وأحد ضباط المخابرات الأمريكية: (حتى لو دمرنا كل شيء فنحن أمام جيش كبير من العلماء.. ما عدا الخبراء والمهندسين العاملين في المجال النووي والبيولوجي والهندسة الكيميائية والفيزياء..)، ثم جاء القرار (1441) الصادر من مجلس الأمن بضرورة استجواب كافة العلماء والباحثين العراقيين البالغ عددهم 3500 عالم، وأرفقت بالقرار كشوفات بأسماء وعناوين العلماء والخبراء والأساتذة العاملين في المجالات والبحوث والدراسات العلمية لكافة الاختصاصات. القاعدة العلمية في العراق كانت مستهدفة، ولم تقتصر المسألة على التفتيش والاستجواب، بل طالت بعد الغزو العديد من الاساليب لإفراغ العراق من مقوماته العلمية، وجعل إعادة بناء قاعدته العلمية.. أمرا في غاية الصعوبة.. لقد استهدفت اعادة العراق للعصور الوسطى كما توعدت الادارة الامريكية النظام العراقي السابق قبيل الغزو عام 2003. ملاحقة وتدمير القاعدة العلمية، وعلى رأسها الكفاءات البشرية التي من الصعب تعويضها في سنوات معدودة، يظهر انه هدف استراتيجي لمنع العرب من بناء قاعدة علمية، وخاصة عندما تكون موجهة لأهداف يترتب عليها صناعة التفوق.. خاصة في المجال الاستراتيجي والعسكري. وهناك من يرى أن من بين الأسباب التي دفعت الإدارة الأمريكية لغزو العراق والسيطرة عليه بدعم وبرغبة إسرائيلية جامحة، هي تلك الثروة العلمية الهائلة من العلماء، والمستوى العلمي المتطور للبحوث والدراسات، التي كان يتم العمل على تنفيذها في العراق، على الرغم من التدهور الذي طال القاعدة العلمية العراقية إبان الحصار الذي استمر 12 عاما. وفي مقال لمارتن إنديك نُشر في مجلة الشؤون الخارجية قبل عقدين، يقول: "إن الاهتمام الأميركي بالعراق يرجع الى أسباب عدّة أهمها الخبرة العراقية الكبيرة والمتراكمة في مجال التصنيع العسكري والبحث العلمي، وهناك آلاف العلماء العراقيين الذين يشكّلون بحق مصدر خطر في الشرق الأوسط لأنهم قد ينقلون خبراتهم الى دول عربية وإسلامية". لم يخف الأميركيون اهتمامهم بموضوع العلماء العراقيين منذ بدء التحضير لغزو العراق واسقاط نظام صدام حسين، إذ ركّزوا على أسماء العلماء العراقيين، وطالبوا من المحقّقين في لجنة الأنفوميك بضرورة إعطاء الأولوية لاستجواب هؤلاء العلماء.. الأمر الذي مهّد في مرحلة ما بعد الاحتلال لملاحقتهم، وتنفيذ خطط موضوعة سلفاً للتعامل معهم. وفي بعض الاحصاءات غير الرسمية أن شهر مايو 2003 شهد مقتل 458 عالماً عراقياً، وأن العدد ارتفع الى 751 في يونيو ثم الى 872 في أغسطس. وقد استقرّ متوسط عدد هذه الاغتيالات على 650 ضحيّة في الشهر، اعتباراً من أغسطس 2003 حتى أوائل العام 2004. وتقول إحصائية صادرة عن عدد من المنظّمات غير الحكومية التي قامت بزيارة العراق بعد الغزو، إن صناعة الاغتيال التي ازدهرت بعد سقوط بغداد، حملت آلاف الأطباء والمهندسين والباحثين على مغادرة العراق قبل أن تشملهم لائحة التصفيات الطويلة في غياب الرادع الأمني. وتؤكد هذه المنظّمات أن التصفيات كانت تجري في الشارع من دون إنذار مسبق، وفي كل الحالات كانت التحقيقات تحفظ تحت عنوان "الفاعل مجهول". إحصائية أخرى أعدّتها رابطة الأساتذة الجامعيين في بغداد تؤكّد أن 80% من عمليات الاغتيال استهدفت العاملين في الجامعات، وأكثر من نصف القتلى يحملون لقب أستاذ أو أستاذ مساعد، وأكثر من نصف الاغتيالات وقعت في جامعة بغداد، ثم البصرة، ثم الموصل والجامعة المستنصرية، و62% من العلماء الذين تمّت تصفيتهم يحملون شهادة دكتوراه دولة من جامعات غربية، ثلثهم مختص بالعلوم والطب، و17% أطباء ممارسون، وقد قتل ثلاثة أرباع الذين تعرّضوا لمحاولات اغتيال، والربع الذي نجا فرّ الى الخارج. وتبقى شهادة ذات دلالة خاصة وردت على لسان العالم العراقي الدكتور نور الدين الربيعي، الأمين العام لاتحاد المجالس النوعية للأبحاث العلمية، رئيس أكاديمية البحث وأحد أبرز العلماء العراقيين في مجال التكنولوجيا النووية. يقول الربيعي: "إن التقدّم التقني للعراق كان أحد أسباب الحرب، وقد سبق لمادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية أن صرّحت "ماذا نستطيع أن نفعل مع العراق غير تدمير عقوله التي لا تستطيع القنابل الذرية أن تدمّرها، فتدمير العقول العراقية أهم من ضرب القنابل". أما في سورية، ففي السنوات الأخيرة اصبح هناك وضع مأساوي يهدد الكفاءات العلمية على اختلاف اختصاصاتها. وهناك العديد من الشواهد على عملية اغتيال لعلماء وباحثين. فقد قتل خمسة مهندسين يعملون في مجال الطاقة النووية في هجوم استهدف حافلة كانت تقلهم في منطقة تقع على الاطراف الشمالية لدمشق. وقتل في نهاية تموز/يوليو 2013 ستة اشخاص وجرح 19 آخرين بسقوط قذيفة على حافلة تقل موظفين يعملون في المركز ذاته في حي برزة بدمشق. وفي وقت سابق، في 26- 28 سبتمبر 2011 تم اغتيال المهندس أوس عبدالكريم خليل، الخبير في الهندسة النووية، والدكتور نائل الدخيل - مدير كلية الكيمياء في جامعة حمص- والمهندس محمد علي عقيل - الأستاذ في كلية الهندسة المعمارية بجامعة البعث في حمص- كما اعتُقلت فاتن رجب - الحاصلة على شهادة الدكتوراه في الفيزياء وعلوم الذرة - من قِبل جهاز المخابرات الجوية بتاريخ 26 نوفمبر 2011 على خلفية نشاطها السلمي ومناصرتها للثورة السورية. ما يؤكد أن العلماء السوريين صاروا منذ مراحل مبكرة للثورة في مرمى النيران. كما ان الوضع الامني المتدهور في سورية لم يعد يسمح لكثير من العلماء والباحثين في الاستمرار ما اضطر كثيرين للهجرة إلى الخارج.. وكل هذا يعيد للأذهان ايضا عمليات الاغتيال التي طالت علماء مصريين متخصصين في المجال النووي وفي غير هذا المجال. أكثرهم شهرة العالم المصري الدكتور يحيى أمين المشد، وكان من علماء الذرة البارزين، والدكتورة سميرة موسى وهي عالمة مصرية في أبحاث الذرة. وغيرهم اخرون تحفل بهم المتابعات التي تناولت سير هؤلاء العلماء وتخصصاتهم ونشاطاتهم. ملاحقة وتدمير القاعدة العلمية وعلى رأسها الكفاءات البشرية التي من الصعب تعويضها في سنوات معدودة، يتأكد انه هدف استراتيجي لمنع العرب من بناء قاعدة علمية، وخاصة عندما تكون موجهة لأهداف يترتب عليها صناعة التفوق، خاصة في المجال الاستراتيجي والعسكري. ولذا ليس من المبالغة ان يقال ان اعظم خسارة مني بها العرب في العقود الاخيرة، خسارة تلك العقول النازفة والمهاجرة أو التي يتم ملاحقتها وتصفيتها جسديا. لمراسلة الكاتب: [email protected]