أقبل الليل بنسائمه الحالمة.. بهدوئه المعهود عبر طرقات المدينة الصغيرة. كانت البيوتات متقاربة.. متراصة وكأنها اخوة قد أخذت العهد على نفسها بألا تفترق!؟؟. في كل بيت تسكن أجساد.. وأسرار.. وآلام. في تلك اللحظات كان «...» يهم بدخول منزله. وفي قرارة نفسه خوف ووجس مما سيسمعه منها بعد قليل.. الأمل.. أصل الحكاية التي لم تبدأ لتنتهي .. هو ذلك المرام الذي طالما داعب مشاعرهما معاً؟. دلف من باب الدار.. فاستقبلته بمحياها المشرق ورائحة بخورها الفواح.. ونسمات تسللت الى أنفه كانت لعبير الهيل الممزوج بالزعفران. كل ذلك كان كفيل بأن يلغي مشاعر فياضة للحنين.. الحنين الى مناغاة طفل يحبو. سد أذنيه عن صدى لم يكن غير صوت والده العجوز وهو يلح عليه بذلك ويدعو له بالذرية الصالحة!!. جلست.. وجلس بالمقابل.. تململ محاولاً اشغال نفسه بأي شيء حتى لا تصطدم نظراته بنظراتها فيقرأ كل كلمة تحاول التعبير عما يكنه جوفها من أمنيات ولكن... لا محالة فقد بدأت بالكلام الذي سبقته قطرات من الدموع تسربت رغماً عنها!!. لقد طرحت عليه فكرة الزواج بأخرى وهي التي ستخطب له ولن تغضب ووو... كانت هناك عبرات تتقطع بحلقها وكأنها كومة من الحجار الصلبة. حيرة.. ألم.. إحساس بالإحباط والعجز عن عمل أي شيء يمسكنا بسلم الوصول الى الهدف.. وقلب.. قلب يرفض الواقع ويرفض البعد عمن التصقت أرواحنا بهم في حال الانفصال!!. لقد هاله منظر عينيها وقد تحولت الى شاطئ يسكنه الصمت فيثور فجأة ليروي الأرض بمائه برغم ملوحتها وكثرة ما تحمله من الأسرار والشوائب. قالت له: أريد البسمة على وجهك وأنت تمسك بيده وتذهبا الى المسجد.. إلى المتجر.. إلى أي مكان.. تشعر بالفخر وهو بجانبك. إحساس مشبع بالخوف والندم.. وأشياء أخرى.. تعبث بكيانه وصوت يصرخ به بألا تفعل.. بألا تفعل..!!!؟. تماسك وقال بكل ما استطاع أن يعبر به: لن اتزوجها وسوف ارضى بما قدره الله لنا افهمت!!!؟. نهض مسرعاً للخارج وهو يصارع أفكار شرسة تهجم على جوارحه وأعماقه كما يهجم المرض على اجسادنا فيبليها ألماً. تتالت الأيام ومضت سنوات فكثر همس الناس حوله.. واتى من يقنعه بالتجربة مرة أخرى.. قال لها: إن باطراف المدينة منزلاً طينياً تسكنه عائلة فقيرة مكونة من الأب وابنته المطلقة وجدتها العجوز وقد اقترح عليَّ أحد المحسنين بأن أتقدم إليها وأتزوجها لعل الله يحقق الأمل وثقي بأنها بالنسبة ليَّ أم ولدي فقط!!. نهضت فأدارت وجهها وكأن هناك من كسر كأس من زجاج مملوء بما حار احرق رأسها ونزل الى كبدها، لكنها استسلمت ولم تنبس بكلمة بل اكتفت بإلقاء النظرة الأخيرة عبر ما صال وجال في أعماقها وصمتت!!!. تم كل شيء وتزوج من تلك الفتاة وحدث ما كان يتمناه فحملت وانجبت.. وصار له أطفال. وشيئاً فشيئاً بدأ يتسرب اليأس الى قلبها الحزين.. الإحساس بأنها «واو» زائدة من بين أحرف الحياة فلم تستطع التحمل وطلبت الانفصال عندما شعرت بأن أطفاله قد أخذوا منه كل اهتمامه بها!!؟. دارت في نفسه عدة تساؤلات كانت أبرزها العشرة.. الحب.. الحب الذي لا يمكن ان يتكرر او ينتهي.. ولكن تذكر انه عاهدها منذ البداية للقائهما بالا يضغط على اعماقها فيلغي لها طلباً او رغبة حتى ان كانت بالنسبة له الغرق.. الألم.. حتى الانصهار. وافق على مضض وهو يتأمل تقاطيع وجهها الحائرة ورفيف رموشها الغاضبة وهي تحاول طرد قطرات من الماء المالح عن غابة عينيها التائهتين. أمسك بيدها الباردة وهو يبكي ويتمنى ان تتراجع عن قرار خطير كهذا ولكن.. قد نتأمل جروحنا ونعيش وخزاتها وقد نضع أناملنا على منابتها محاولين رتقها حتى لا تتسع لكي نجاري الحياة ونحاول التأقلم مع ما تبقى لنا بها بصمت. مرت أيام وسنون ومازال يلوح له ظلها وهي تجر آلامها ممسكة بحقيبة ملابسها تخطو آخر الخطوات في منزله وبين ناظريه بتصميم وعزيمة. تلونت الليالي في مخيلته وأيامه وهو مازال يتنفس عبق عطرها الأصيل وطلتها البهية محاولاً مقارنتها بأم أطفاله ولكن.. لا يمكن.. لم يشعر يوماً من الأيام ولو بتشابه بسيط بينهما فقد.. فقد كل رومانسية كان يعيشها ويتمتع بأيامها!!. وصار له خمس أطفال أكبرهم يبلغ من العمر عشرة أعوام وأصغرهم مازال وليد الحياة منذ بضعة أيام عندما تخلت عنه والدته بالرحيل بعد صراع مرير مع المرض لم يمهلها حتى تراه أو تبارك اسمه. وكأن الأقدار بأمر مدبرها قد وضعت للحياة رسماً تفصيلياً!!. لقد بقي وحيداً يصارع الأوجاع في كل لحظة فيداهمه الخوف ولا يكاد يصرخ حتى يسمع انين طفله الرضيع وكأنه علم يقينا بأنه في العراء بعيداً عن حضن دافئ يحسسه بالأمان ويشبعه رائحة الحنان فينام قرير العين. حمل طفله وفي صدره حشرجة ثقيلة وطرق باباً من الخشب على يمينه ويساره حوضان من أحواض الريحان التي كثيراً ما كانت تهتم بزراعته ونشره في جنبات البهو.. ولكن غزت قلبه رجفة فنشف حلقه وازدرد ريقه بصعوبة بالغة.. ليست هناك بوادر للحياة فالأغصان يابسة والأوراق صفراء، انه نذير بشيء قد حصل!!. طرق بشدة فسمع صوتاً هزيلاً بالداخل ما لبث ان اقترب وفتح ليفاجأه ظل شبح لم يكن لغير «...» التي شهقت ثم سقطت وكأن الله استجاب لها، فقد كانت السقطة الأخيرة وكان لها أمل وأمنية بأن يكون هو آخر من تراه. تتابعت اسئلة كثيرة عبر خطوط وجهه الأسمر ولكن لم يجد لها جواباً، بلع الألم وعاد الى منزله يجر الخطى بروح هاوية وأنفاس متقطعة يحمل مسؤولية خمس أرواح بريئة ترقبه بصمت.. وخوف وانكسار وكأنها تقرأ ما يدور في مخيلته من خلال حركاته اللاشعورية وتعبيراته الانفعالية بين الحين والآخر.. حملهم مع همومه وانزوى بأحد اركان منزله القديم وهو يعيش ما تبقى له من خلال أحلام اليقظة فيكلمها ويدنو من أماكن جلوسها ويحتسي القهوة ويتسامر ويحلم.