بحثنا في مقال سابق البيت في بغداد كبداية سلسلة تعنى بدراسة البيت العربي التقليدي على ارجاء الوطن الكبير، وتم استعراض أبرز الدراسات التي اجريت حول تطوره ونشأته تاريخيا، بالاضافة إلى لمحات من علاقة البيت بالمجتمع من ناحية وبالبيئة من ناحية، وكذلك آلية تكوين البيت العضوية من ناحية فراغية في الجزء الآخر. ونبحث تاليا جوانب من البيت التقليدي في مدينة صنعاء باليمن. يعتبر البيت اليمني متميزا لطبيعة تكوينه البرجية الرأسية التي تميّزه عن غيره من أنماط البيوت التقليدية في المدن العربية، ويرتفع البيت اليمني على عدة طوابق تتراوح ما بين الاربعة والتسعة، ويعزو بعض الباحثين تميز العمارة اليمنية بهذه الطبيعة البرجية لعوامل طبيعية متعلقة بطبيعة استعمال الاراضي الزراعية والاستفادة من علو البيت للإطلالة والاشراف على الممتلكات الزراعية، وأيا ما كان الدافع فقد تميّز البيت من ناحيتين تبعاً لهذا التشكيل الرأسي: الأولى حيث توزعت الانشطة والفراغات الوظيفية البيتية رأسيا خلافا لما هو مألوف في العمارة العربية والبيوت التي تلتف فراغاتها حول فناء وسطي كما في القدس مثلا، أو القاهرة أو بغداد أو تونس أو مناطق اقليمية بالبيت السعودي التقليدي. الثانية: وتتعلق بطبيعة التجمعات السكنية ذاتها والمكونة من مجموعة بيوت أو بكلمات أخرى المتجاورة السكنية. تاليا نلقي الضوء على هاتين الناحيتين بالاضافة إلى العلاقات بين هذه التوزيعات الفراغية والتفاعلات الاجتماعية التي يحتويها البيت. بدراسة وملاحظة توزيع الانشطة والوظائف المختلفة في البيت الصنعاني، فقد تأثرت هذه التوزيعات الفراغية بالاضافة إلى العامل الرئيس المذكور وهو الرأسية أو الطبيعة البرجية للبيت بعامل آخر لا يكاد يقل أهمية وهو حركة الشمس اليومية فمن ناحية التوزيعات الفراغية بناء على الرأسية نلاحظ نمطية معينة قلما يخلو منها بيت نموذجي في مدينة صنعاء التقليدية، حيث يبدو ان أهمية الوظائف - وهي ناحية منطقية - تزداد في الطوابق العليا فنجد ان الطابق الأرضي غالبا ما يخصص لبهو الدخول الذي نجده عادة يفضي إلى الدرج الرئيس للبيت الذي يقود للطوابق العليا، ويحتوي أيضا على مخازن للحبوب وحظائر الماشية ان كان رب البيت مزارعا ومربيا للماشية. في الطابق الاول غالبا ما تتوفر فراغات وظيفية مثل حجرة تجمع العائلة واستقبال الضيوف الذين يحتاجون لخلع احذيتهم لدى الدخول، وتفرش هذه الحجرة بالسجاد وتحتوي على ايوانات غائرة بالجدران تستعمل للجلوس، إذ تفرش بالبسط والمقاعد المحشوة بالقطن، كما ان النوافذ منخفضة بما يمكن للجالسين من مد النظر عبرها، وتختلف هذه المفروشات الارضية أو مما يتم تعليقه على الجدران بحسب مدى ثراء صاحب البيت. أما الطابق الثاني فيحتوي الحجرة الرئيسة التي تشهد مختلف انواع احتفالات أو تجمعات الاسرة في المناسبات المختلفة من افراح وأتراح، ففي هذه الصالة يحتفل أفراد الاسرة بالزواج، أو يوم قدوم مولود جديد، أو الاعياد الدينية، وكذلك تغسل الجنازة وتسجى قبل اخراجها. الطابق الثالث يحتوي حجرات أصغر غالبها للنساء والاطفال، بالاضافة إلى الفراغات الوظيفية التخديمية كالمطبخ، وهذا الطابق يطلق عليه تقليديا الحرملك وذلك لطبيعة انعزاله والنشاطات الوظيفية التي يحتويها، وحيث لا يسمح لغير القاطنين بالبيت من الذكور بدخول هذه المنطقة، وتوجد هذه المنطقة (الحرملك) في معظم البيوت العربية التقليدية، ولا تشيع ظاهرة تعدد الزوجات في المجتمع الصنعاني بكثرة، ولذلك فمن غير الشائع أيضا ان تشاطر أكثر من زوجة نفس الحرملك. إذ يمكن للزوج الثري الذي يجمع بين أكثر من زوجة ان يسكنها إما في بيت آخر أو في طابق آخر من البيت البرجي متعدد الطوابق. وبشكل عام يحتل الحرملك والدة رب البيت وزوجته، وأحيانا اخواته غير المتزوجات وأحيانا زوجات اخوته والاطفال. ونجد المطبخ يقع في هذا الطابق حيث سهولة التخديم بين الطابق الثاني الذي يحوي صالة الاستقبال الرئيسة وكذلك للطوابق العليا، وبذلك يسهل موقع المطبخ في هذا الطابق المتوسط من التخديم رأسيا، وايضا نظرا لتركز الحرملك ونساء البيت به. أما الطابق الرابع الرئيس فيحتوي اهم صالة بالبيت وهي لجلوس الرجال بالبيت ومسامرتهم ويمكن استقبال الضيوف ذوي المكانة المقربة من رب البيت والعائلة في هذه الصالة والتي تدعى (المفرج). ويمكن ان تعزى هذه التسمية إلى طبيعة اطلالة الصالة للخارج وامكانية الفرجة من نوافذها المتميزة الضيقة. وتتميز نوافذ هذا المفرج بانقسامها إلى العديد من الفتحات العليا لادخال الانارة، والوسطى للتهوية والأخيرة للفرجة، كما تحتوي على الزجاج الملون بما يعرف بالقمريات في العمارة العربية، وتلقي النوافذ بظلالها البديعة للداخل حين مرور الضوء عبر الزجاج الملون وانعكاسه على الارضية الداخلية. وتشكل جلسات المسامرات بالمفرج بالطابق العلوي ابرز مظاهر التفاعلات الاجتماعية التي عادة ما تمتد لساعات طويلة وتحتوي على مضغ و(تخزين) نبات القات الذي يتطلب ساعات طويلة، حيث يجلس المتسامرون وعادة ما يحضر الضيوف القات معهم. وعلى الاغلب ما يكون معدل افراد الاسرة القاطنين بالبيت هو سبعة ان كانت الاسرة نووية وغير ممتدة، وبهذا يمكن ان يمتد البيت لأكثر من هذه الطوابق الاربعة تبعا لنوعية الاسرة وحجم الامتداد الرأسي المطلوب لايواء عدد القاطنين من افراد الاسرة أو الاسرة الممتدة أو الزوجات في حالة تعددهن. أما العامل الآخر الذي يتحكم في توزع الانشطة والفراغات الوظيفية بالبيت الصنعاني، فهو الشمس وحركتها اليومية، وقد ادى هذا التوزيع الذي يحكمه المناخ وعامل الشمس إلى تسميات البيت تبعا لذلك، فالبيت الذي تتوزع الانشطة المهمة فيه يكون باتجاه الجنوب - وهذا الغالب - حيث التعرض الاطول لأشعة الشمس، يدعى بالبيت الكامل، وتسمى الواجهة الجنوبية الواجهة الكاملة. أما البيت الذي تتوجه الانشطة الرئيسة به باتجاه الشمال فيدعى البيت الناقص، حيث تدعى الواجهة الشمالية الوجهة الناقصة، أما الواجهتان الشرقية والغربية فتدعيان شبه الكاملتين، وعليه تعتمد تسمية البيت نصف الكامل أو الناقص تبعا للانشطة المتوزعة في هاتين الواجهتين اللتين تختلف ساعات ومدة تعرضهما للشمس يوميا. والبيت النموذجي عادة هو البيت الذي تتوجه انشطته للجنوب فيما تحتل الخدمات كالحمامات والادراج والمخازن الواجهة الجنوبية، فيما يطل الديوان أو صالة جلوس العائلة بالطابق الثاني الواجهة الشرقية أو الغربية. هذا فيما يتعلق بطبيعة توزيع البيت الواحد. من ناحية أخرى نجد ان طبيعة تجميع البيوت معا فريدة أيضا ومتميزة عما نجده في مدن عربية أخرى، اذ ان الطبيعة البرجية للبيت الواحد وضمن خلو الفناء الوسطي مما نجده في البيت العربي التقليدي تجعل تركيبته المتجاورة السكنية متميزة، وهذه التركيبة غالبا ما تحتوي اشتراك أكثر من بيت في منطقة للدخول كما تلتف مجموعة البيوت حول منطقة غالبا ما تكون وقفية وتدعى البستان، وتتم زراعتها بأنواع المحاصيل التي يعود ريعها على المجتمع المحلي أو المسجد المجاور. من ذلك كله نجد ان مفهوم البيت الصنعاني وتكوينه يختلف عما وجدنا سابقا في البيت البغدادي مثلا، وان هذه الطبيعة المختلفة مردها عوامل محلية بعضها اجتماعية متعلقة بطبيعة المجتمع المحلي الزراعية مما يتحكم في التوزيع الرأسي للبيت، وبعضها الآخر ذو طبيعة بيئية أو مناخية تتحكم في التوزيعات الفراغية أفقيا. كذلك فإن بعض العادات الاجتماعية كعادة مضغ وتخزين القات تتطلب انعزالية في جلسات المسامرات واثناء تخزين القات، وهو مجلس الرجال بالمفرج بالطابق الاخير. والتساؤل الذي يطرح: ما هو تأثير هذا التوزيع المختلف على العلاقات المختلفة بين الانشطة الحيوية بالبيت؟ بكلمات أخرى هل الفراغات الرئيسة بالبيت كصالات المعيشة رئيسة فعلا في علاقاتها مع غيرها من الفراغات ، ام ان التوزيع الفراغي كان انعكاسا محضا لهذه العوامل المذكورة وذلك على حساب أهمية الفراغات الوظيفية موقعيا؟ وهل يؤثر وجود المفرج وهو مجلس للرجال على خصوصية الانشطة بالطوابق الدنيا كالحرملك مثلا؟ وما القيمة التكاملية للفراغات الرئيسة ضمن حالات دراسية معينة؟ للاجابة عن هذه التساؤلات سنتناول حالات دراسية معينة نقوم بتحليلها باستعمال نظرية منظومة الفراغ، وهو موضوع المقال التالي.